الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "نعم ترجمان القرآن ابن عباس"(1).
وقال مجاهد رحمه الله: "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها"(2).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "لم يكن في الصحابة من تأوَّل شيئًا من نصوصه -أي: نصوص الوحي- على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت. . . "(3).
10 - النصوص إذا وجدت سقط الاجتهاد:
فلا يصار إلى الاجتهاد إلا إذا عدم النص؛ ذلك أن المصير إلى الاجتهاد إنما يكون عند وجود ضرورة ملجئة؛ فالنصوص هي المرجع الأول والحجة القاطعة، ولا ينعقد إجماع على خلافها أبدًا.
قال الشافعي رحمه الله: ". . أو إجماع علماء المسلمين، الذي لا يمكن أن يجمعوا على خلاف سنَّةٍ له"(4).
والقياس الصحيح موافق للنصوص فلا يختلفان، وصريح العقل لا يعارض صحيح النقل.
وبالجملة فالنصوص حق لا باطل فيه، ولا يمكن الاستدلال بها على إقامة باطل أبدًا.
قال ابن تيمية رحمه الله: ". . . وذلك أن الحق الذي لا باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن الله، وذلك في حقنا، ويعرف بالكتاب والسنة والإجماع"(5).
فالحاصل: "أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح
(1) المرجع السابق، (1/ 84).
(2)
المرجع السابق، (1/ 85).
(3)
مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (13/ 252).
(4)
الرسالة، للشافعي، (ص 322).
(5)
مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (19/ 5).
المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه" (1).
وبعد بيان خصائص النصوص يظهر جليًّا أن المجتهد ملزم باتباعها وعدم الحزوج عنها ولو أداه ذلك لمخالفة مذهبه أو رأيه، وقد ذكر ابن القيم الكثير من الأمثلة على ذلك؛ منها: عدم الالتفات إلى قول عمر رضي الله عنه في المبتوتة نظرًا لصحة حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنه، ولا الأخذ بخلافه في مسألة التيمم للجنب؛ وذلك لصحة حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه، وغيرها من الأمثلة كثير (2).
وقد ردَّد ابن القيم في كتبه كثيرًا القول بأنه لا يجوز للمجتهد أن يُقدِّم على الأحاديث الصحيحة عملًا (3)، ولا رأيًا ولا قياسًا ولا قول صحابي، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا (4).
وقد اتفق الأئمة على تقديم النصوص على الآراء، قال النووي رحمه الله: "صح عن
(1) درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، (2/ 364).
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 29 - 30)، وقد علق على هذين المثالين الدهلوي في حجة الله البالغة في بيانه السبب الذي دعا عمر إلى مخالفة هذه الأحاديث؛ فقال:"أن يبلغه الحديث ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده؛ بل طعن في الحديث، مثاله: ما رواه أصحاب الأصول أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة الثلاث فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سُكنى فرد شهادتها، وقال: لا أترك كتاب الله يقول امرأة، لا ندري أصدقتْ أم كذبتْ، لها النفقة والسكنى. . .، ومثال آخر: روى الشيخان أنه كان من مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن التيمم لا يجزئ للجنب الذي لا يجد ماء، فروى عنده عمار أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصابته جنابة ولم يجد ماء، فتمعك في التراب، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما كان يكفيك أن تفعل هكذا وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه ويديه، فلم يقبل عمر، ولم ينهض عنده حجة لقادح خفي رآه فيه، حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة، واضمحل وهم القادح فأخذوا به". حجة الله البالغة، للدهلوي، (1/ 245). وحديث فاطمة أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها (1480)، أما حديث عمار رضي الله عنه فأخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب: المتيمم هل ينفخ فيهما، (338).
(3)
المقصود بالعمل هنا عمل أهل المدينة الذي يعتبر حجة عند الإمام مالك رحمه الله.
(4)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 30).
الشافعي رحمه الله أنه قال: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي"(1).
وروي عنه: "إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي"، أو قال:"فهو مذهبي". وروي عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة.
وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب، واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض، وغيرها مما هو معروف في كتب المذهب.
وقد حكى المصنف -أي: أبو إسحاق الشيرازي- ذلك عن الأصحاب فيهما وممن حكى أنه أفتى بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البُوَيْطي (2) وأبو القاسم الداركي (3)، وممن نص عليه أبو الحسن الكيا الطبري (4) في كتابه في أصول الفقه، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين الإمام أبو بكر البيهقي (5) وآخرون.
(1) معرفة السنن والآثار، للبيهقي (1/ 217)، تحقيق: د. رواس قلعجي، تاريخ دمشق، لابن عساكر (51/ 386).
(2)
أبو يعقوب، يوسف بن يحيى البويطي المصري، أكبر أصحاب الشافعي المصريين، تفقه على الشافعي واختص بصحبته، وكان الشافعي يعتمده في الفتيا ويحيل عليه، واستخلفه على أصحابه بعد موته، فتخرجت على يديه أئمة تفرقوا فى البلاد، توفي سنة 231 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 98) طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي (2/ 162 - 163).
(3)
أبو القاسم، عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، الداركي، الإمام الكبير، شيخ الشافعية بالعراق، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وتفقه عليه أبو حامد الإسفرايني، توفي سنة 375 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 117).
(4)
أبو الحسن، شمس الإسلام، علي بن محمد بن علي الإمام، الكيا الهراسي، الطبري، الملقب عماد الدين، أحد فحول العلماء، ورءوس الأئمة، فقهًا، وأصولًا، وجدلًا، شيخ الشافعية، ومدرس النظامية، ولد سنة 450 هـ، وتوفي سنة 504 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 350)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (7/ 232).
(5)
أبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى، البيهقي، النيسابوري، الحافظ العلامة، الثبت، الفقيه، شيخ الإسلام، من مصنفاته: الزهد، ودلائل النبوة، وشعب الإيمان، ولد سنة 384 هـ، وتوفي سنة 458 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 163)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (4/ 8).
وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه، عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين:"مذهب الشافعي ما وافق الحديث"(1).
وفي شرح الهداية لابن الشِّحنة (2) -من كبار الحنفية-: "إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيًّا بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة"(3).
وقال الإمام السندي رحمه الله (4) -من كبار الحنفية- في حواشيه على "فتح القدير": "الحديث حجة في نفسه، واحتمال النسخ لا يضر، فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به وهو منسوخ، فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا يعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان، فإنما يُقال له: انظر هل هو منسوخ أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه فالعامل به في غاية العذر، فإن تَطرُّقَ الاحتمال إلى خطأ المفتي أقوى من الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث.
وقال ابن عبد البر رحمه الله: "يجب على كل من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه حتى
(1) المجموع، للنووي، (1/ 63 - 64).
(2)
أبو الفضل، محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن الشهاب غازي بن أيوب ابن حسام الدين محمود شحنة حلب المحب الحلبي، الحنفي، له مصنفات منها: اختصار النشر، وشرح الهداية، وشرح العقائد، توفي سنة 890 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (9/ 524)، البدر الطالع، للشوكاني، (2/ 263).
(3)
حاشية ابن عابدين، (1/ 167).
(4)
أبو الحسن، نور الدين، محمد بن عبد الهادي، السندي، الحنفي، فقيه حنفي، عالم بالحديث والتفسير، والعربية، من تصانيفه: حاشية على الأذكار للنووي، حاشية على أنوار التنزيل للبيضاوي، حاشية على شرح جمع الجوامع، توفي بالمدينة سنة 1138 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 253)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (10/ 262).
يثبت عنده ما يخصه أو ينسخه" (1)، وأيضًا فإن المنسوخ من السنة في غاية القلَّة حتى عدَّه بعضهم واحدًا وعشرين حديثًا، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي؛ بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي، كيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا فهم معناه وإن احتمل النسخ؟ ولو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطًا في العلم بها، وهذا من أبطل الباطل، وقد أقام الله تعالى الحجة برسوله صلى الله عليه وسلم دون آحاد الأمة، ولا يعرض احتمال الخطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يُعلم خطؤه من صوابه، ويجري عليه التناقض والإخلال، ويقول القول ويرجع عنه، ويُحكى عنه في المسألة عدة أقوال، وهذا كله فيما له نوع أهلية أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز، ولو قدر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل من يعرفها فكذلك الحديث". انتهى كلام السندي ملخصًا، وقد أطال من هذا النفس العالي رحمه الله ورضي عنه"(2).
ولا شك أن الغفلة عن النصوص والجهل بها عند التصدي للإفتاء لا سيما في النوازل من أخطر الآفات التي تعرض للفتيا، حيث قد يقع اجتهاد في غير محلِّه بسبب الجهل بالنصوص، وقد نصت القاعدة الفقهية على أنه: لا اجتهاد مع النص، ولا شك أن خفاء نصوص السنة هو الأكثر والأشهر.
(1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: مجموعة من الباحثين، مؤسسة قرطبة، طبعت أجزاؤه تباعًا على سنوات متعددة، (1/ 304).
(2)
الفتوى في الإسلام، لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد عبد الحكيم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1406 هـ - 1986 م، (ص 111 - 113).
وقد لا يأتي الخطأ من عدم استحضار النص، ولكن من سوء تأويله، وفهمه على غير وجهه، اتباعًا للشهوة، أو إرضاءً لنزوة، أو حبًّا لدنيا، أو تقليدًا أعمى للآخرين.
وسوء الفهم أو سوء التأويل آفة قديمة منيت بها النصوص الدينية، والكتب المقدسة، وهو أحد الوجهين فيما وَصَم به القرآن أهل الكتاب من تحريف الكلم عن مواضعه.
فليس المقصود بالتحريف تبديل لفظ مكان لفظ فحسب، بل يشمل تفسير اللفظ بغير المراد منه، فهذا هو التحريف المعنوي، والأول هو التحريف اللفظي.
ومن أمثلة سوء التأويل ما قاله بعضهم حول الآيات التي وردت في سورة المائدة في شأن من لم يحكم بما أنزل الله، وهو قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
قال هذا القائل: إن هذه الآيات لم تنزل فينا -معشر المسلمين- وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة.
ومقتضي هذا -في زعمه- أن من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والنصارى فهو كافر أو ظالم أو فاسق، وأما من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين فليس كافرًا ولا ظالمًا ولا فاسقًا! هذا والله مما لا ينقضي منه العجب! (1)
وإذا كان الأصل إجراء النصوص الشرعية على ظواهرها، فإن ذلك لا يعني الوقوف عند هذه الظواهر دون فهم ما يتضمنه النص من معانٍ وما يشتمل عليه من أحكام، ولا يعني أيضًا عدم الأخذ بالقياس واستخراج العلل (2).
(1) الفتوى بين الانضباط والتسيب، د. يوسف القرضاوي، دار الصحوة، القاهرة، ط 1، 1408 هـ - 1988 م، (ص 69).
(2)
الضوابط الشرعية للإفتاء، د. عبد الحي عزب، (ص 67).