الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - التكرار والشيوع:
بمعنى أن العادة حتى تُعْتَبَرَ لا بد من تكرار استعمالها وشيوع العمل بها إلى أن يصير المعنى المنقول إليه مفهومًا بغير قرينة، ويكون هو السابق إلى الفهم دون غيره عند الإطلاق (1).
وهذا الشرط مختلَفٌ فيه كالشرط السابق.
فإذا تحققت الشروط السالفة كان العرف ملزِمًا ومعتبرًا، وهو ما أشار إليه الفقهاء والأصوليون بعباراتٍ متعددةٍ وقواعدَ محددةٍ.
ومما ينبغي استحضاره: أن العرف ليس دليلًا بذاته وإن اتُّفِقَ على اعتباره؛ فالعرف ترجع دلالته إلى الكتاب والسنة والإجماع، فدلالته ليست ذاتية على التحقيق.
وأما قول الفقهاء: "إن الثابت بالعرف كالثابت بالنص"(2) فمعناه: أن ما أجمله النص فبينه فبينه العرف فهو كالثابت بالنص، وهو ما عُبِّرَ عنه بصورة أوضح في مثل قولهم:
"التعيين بالعرف كالتعيين بالنص"(3)، "المعروف كالمشروط"(4)، و"المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (5).
وغاية العرف أن يكون أمارةً كاشفة عن المصلحة التي دعت الناس إلى التعامل بما تعارفوه، وكان ذلك سببًا في انتشاره واطِّراده، فإن كانت تلك المصلحة حقيقيةً وليست بملغاة ولم تعارض نصوص الشريعة؛ فإنها تعتبر من المصلحة المرسلة، وهي معتبرة من أدلة التشريع في الجملة.
(1) تبصرة الحكام، لابن فرحون، (2/ 74)، ومعين الحكام، لابن عبد الرفيع التونسي، (ص 125).
(2)
المبسوط، للسرخسي، (9/ 4)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 188)، حاشية ابن عابدين، (2/ 357).
(3)
المبسوط، للسرخسي، (4/ 152)، شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر، (1/ 46).
(4)
شرح فتح القدير، (3/ 381)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 103)، شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر، (3/ 609).
(5)
حاشية ابن عابدين، (8/ 501)، شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر، (1/ 46).
وأما إن كانت غير حقيقية أو متوهمة أو مخالفة لأصول الشريعة أو نصوصها - فالعرف الراجع إليها غير معتبر؛ لأنه عرف فاسد (1).
وإذا تبين ما ذُكِرَ فلا غنى بالمجتهد والقاضي والمفتي عن اعتبار العرف الجاري في التعامل بين الناس لدى الإفتاء؛ لأن النص قد يتوقف في أخذ الحكم منه على العرف والعادة.
كما أنه لدى التطبيق يُطْلَبُ مراعاة العرف في مثل المعاملات الجارية بين الناس.
وقد نصَّ العلماء على ذلك كثيرًا؛ فهذا ابن عابدين في رسالته "نشر العَرْفِ في بناء بعض الأحكام على العُرْفِ" يقول: "فهذا كله وأمثاله دلائل واضحة على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله، وإلَّا يُضَيِّعُ حقوقًا كثيرة ويكون ضرره أكثر من نفعه، وليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية ويتركا العرف، والله أعلم "(2).
وقال القرافي: "إن إجراء هذه الأحكام التي مَدْرَكُهَا العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما في الشريعة يتبعُ العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة، إلى ما تقتضيه العادة المتجددة". ثم شرع يفصل: "ألا ترى أنهم لما جعلوا أن المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معيَّنًا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا ما انتقلت العادة إليه وألغينا الأول؛ لانتقال العادة منه "(3).
وفيما يلي بعض الأمثلة على تغير الفتيا بتغير العرف:
1 -
إن أبا حنيفة لم يجوِّز بيع النحل ودود القز قياسًا على سائر الهوام بجامع عدم المالية
(1) العرف وأثره في التشريع، د. السيد صالح عوض، (ص 239).
(2)
نشر العرف، لابن عابدين، (2/ 131).
(3)
الإحكام في تمييز الفتاوي من الأحكام، للقرافي، (ص 218، 219).
والتقوم، ثم أجاز محمد بن الحسن الشيباني بيعهما؛ لأنهما صارا في عهده متقومين (1).
2 -
لما ورد الحديث بإخراج صاع من تمر أو شعير أو قمح أو زبيب أو أقط (2) في زكاة الفطر -رأى العلماء أن هذه الأقوات كانت هي غالب القوت عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث في ذلك الزمان؛ فكأنه قال: أخرجوا صاعًا من غالب قوت البلد التي أنتم فيها. وعلى ذلك أفتى العلماء بجواز إخراج صاع من الأرز والذرة ونحوه، إذا كان هذا هو غالب قوت البلد في زمانهم (3).
3 -
إذا استأجر رَجلٌ رجلًا لعمل معين كخياطة ثوب أو لطبع كتاب أو غير ذلك من الأعمال التي يلزم الصانع فيها أدوات لإتمام صنعته؛ فهل هذه الأدوات على المستأجر، أم على الصانع؟
اختلف الشافعية، وصحح الرافعي الرجوع في ذلك إلى العادة فيحكم بها ويتغير الحكم بتغيرها (4).
4 -
لو حلف رجل أن لا يأكل لحمًا لم يحنث بأكل السمك وإن سماه الله لحمًا طريًّا، وكذلك لو حلف أن لا يجلس على بساط أو تحت سقف أو في ضوء سراج لم يحنث بالجلوس على الأرض، وإنْ سمَّاها الله بساطًا، ولا تحت السماء وإنْ سمَّاها الله سقفًا، ولا في الشمس
(1) العرف والعادة في رأي الفقهاء، للشيخ أحمد فهمي أبي سنة، ط 2، 1412 هـ - 1992، (ص 130).
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر، وباب: صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين، وباب: صاع من شعير، وباب: صدقة الفطر صاعًا من طعام، وباب: صدقة الفطر صاعًا من تمر، وباب: صاع من زبيب (1503، 1504، 1505، 1506، 1507، 1508)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، (984، 985)، من حديثي ابن عمر، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.
(3)
المغني، لابن قدامة، (4/ 290)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (1/ 406)، شرح مختصر خليل، للخرشي، دار الكتب العلمية، ط 1، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه زكريا عميرات، (2/ 538).
(4)
أسنى المطالب، لزكريا الأنصاري، تحقيق: د. محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية، ط 1، 2000 م، (2/ 418)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (2/ 346).
وإن سمَّاها الله سراجًا، فيقدم العرف على الشرع في جميع ذلك؛ لأنها اسْتُعملت في الشرع تسمية بلا تعليق حكم وتكليف (1).
5 -
إذا اختلف الزوج والزوجة في قبض الصداق بعد الدخول، فإن القول قول الزوج؛ بناء على العادة في بلد ما مِن أن الزوج لا يدخل حتى يدفع كامل الصداق، وإن القول قول الزوجة في بلد آخر؛ بناء على عاداتهم من عدم دفع كامل الصداق قبل الدخول؛ فاختلف الحكم تبعًا للعادة بأن جعل القول للزوج تارة وللزوجة تارة أخرى، ولا يوجد اختلاف في أصل الدليل الشرعي (2).
ومن القواعد المرادفة لقاعدة العرف معتبر والعادة محكمة والمندرجة تحتها ما يلي:
1 -
استعمال الناس حجة يجب العمل بها (3):
وعلى اعتبار الاستعمال مرادفًا للعادة تعتبر هذه القاعدة مرادفةً لقاعدة العادة محكمة.
وأماَّ إذا كان الاستعمال بمعنى نقل اللفظ عن وضعه الأصلي واستعماله في المعنى المجازي شرعًا وغلبة استعماله فيه- فإن معناها إذن: أن الحقيقة العرفية محكَّمة في فهم الألفاظ.
فلو حلف لا يأكل شواءً اختصت عينه باللحم المشوي دون البيض أو الباذنجان أو غيرهما مما قد يشوى (4).
2 -
الثابت بالعرف كالثابت بدليل شرعي، الثابت بالعرف كالثابت بالنص (5)، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (6).
(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 93)، ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 249).
(2)
الإحكام، للقرافي، (ص 219 - 220)، الميسر في أصول الفقه، للغرياني (169)، الحكم فيما لا نص فيه، للبرديسي، (ص 98 - 99).
(3)
خاتمة مجامع الحقائق، للخادمي، المطبعة العامرة، استانبول، 1308 هـ، (ص 308)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر، (1/ 41).
(4)
تقرير القواعد وتحرير الفوائد، لابن رجب، (2/ 555).
(5)
درر الحكام، (1/ 46)، نشر العرف، (2/ 115).
(6)
درر الحكام شرح مجله الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 46).
فما تَوافقَ عليه الناس وتحققت فيه الشروط فإنه محكَّم؛ لأنه حينئذ يكون كالثابت بدليل شرعي؛ فيُعمَل به ويُحتَكَم إليه؛ كالدليل الشرعي سواء بسواء.
3 -
إنما تعتبر العادة إذا اطَّردت أو غَلبت (1)، والعبرة للغالب الشائع لا للنادر (2).
وهما قاعدتان تُعَبِّران عن بعض شرائط العرف لكي يُعتبر، وهي شرائط الاطِّراد والغلبة والشيوع والاشتهار بين الناس.
4 -
العرفُ الذي تُحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارِنُ السابق دون المتأخر اللَّاحق (3).
فلا عِبرة للعرف الطارئ؛ فلا بد من أن يكون العرف سابقًا في الوجود عن الحكم لا تاليًا له متأخِّرًا عنه؛ فيحمل الحكم على العرف الموجود وقت التلفظ.
5 -
الحقيقة تُترك بدلالة العادة (4).
فدلالة اللفظ الحقيقية تُترك ولا تُعتبر إذا دلَّ العرف والعادة على استعمال هذه اللفظة استعمالًا مغايرًا لمعناها الحقيقي، ويُبنَى الحكمُ على المعنى الذي دل عليه العرف والعادة (5).
6 -
الكتاب كالخطاب (6).
فالكتابة كالمخاطبة الشفهية؛ لأن ما يترتب عليهما واحد، والكتابة ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا، وكلُّ كتاب يُحَرَّرُ على الوجه المتعارف عليه بين الناس يكون حجة على كاتبه؛ كالنطق باللسان.
(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 92)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 103).
(2)
خاتمة مجامع الحقائق، للخادمي، المبطعة العامرة، استانبول، 1308 هـ، (ص 325)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 45).
(3)
الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 96)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 110).
(4)
خاتمة مجامع الحقائق، للخادمي، (319)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 43).
(5)
الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، للبورنو، (ص 244).
(6)
شرح المجلة، للأتاسي، (1/ 190).