الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كاملة، أو يكون فيها مفسدة تُربي في الموازنة على المصلحة، فلا يقوَّم خيرها بشرها، وكم من مدبِّر أمرًا لا يتم له على كماله أصلًا، ولا يجني منه ثمرة أصلًا" (1).
فالرجوع إلى ما شرعه الشارع الحكيم في هذا الباب هو تحقيق للمصلحة، وتخفيف على الوجه المشروع.
صور من طلب التخفيف بوجه غير شرعي:
أولًا: إتباع الحيل المحرمة:
معنى الحيل:
تطلق الحيلة -لغةً- على: الحذق، وجودة النظر، ودقة التصرف، وحسن تدبير الأمور، وهي مشتقة من التحول والانتقال من حالة إلى أخرى (2).
ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية موصلاً إلى الغرض المطلوب، بحيث لا يتفطن له إلا بنوعٍ من الذكاء، فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت قبيحة (3).
وقد قال بعض العلماء: إنها صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قُصِدَ بها التوصل إلى الغرض المنوع منه شرعًا أو عقلًا أو عادة (4).
وعرفها الشاطبي رحمه الله بقوله: "تقديم عمل ظاهر الجواز؛ لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر"(5).
(1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 349).
(2)
لسان العرب، لابن منظور، (3/ 399)، المصباح المنير، للفيومي، (1/ 157).
(3)
الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (6/ 106).
(4)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 241)، وإغاثة اللهفان، لابن القيم، (1/ 385).
(5)
الموافقات، للشاطبي، (4/ 201).
وعرفها ابن القيم رحمه الله بأنها: "إظهار أمر جائز؛ ليتوصل به إلى محرم يبطنه"(1).
ومن ذلك: حيل اليهود في استباحة الحرام، كإيمانهم أول النهار وكفرهم آخره؛ ليصدوا الناس عن الإسلام، وتحريفهم التوراة، وليِّهم ألسنتهم بالكتاب، وزعمهم أن الله أنزلها. كذبًا وزورًا.
وهكذا كل حيلة تضمنت إسقاط حق الله أو الآدمي فهي تندرج فيما يستحل به المحارم (2).
وهذه الحيل الممنوعة على أضرب ثلانة هي (3):
1 -
حيلة محرمة ويتوصل بها إلى محرم.
2 -
حيلة مباحة ويتوصل بها إلى محرم.
3 -
حيلة مباحة لا يتوصل بها إلى محرم، وتستعمل لتفضي إلى محرم.
وقد ذهب العلماء إلى تحريم الإفتاء بهذه الأنواع جميعًا، بل لا يجوز تقليد من يفتي بها، ويجب نقض حكمه، ولا يجوز الدلالة للمقلِّد على من يفتي بها، وهذا مذهب جمهور العلماء في سائر المذاهب، ونصَّ كثير منهم على عدم قبول الفتاوي التي تتضمن هذا النوع من الحيل.
فعند الحنفية: "يمنع مفتٍ ماجنٌ يعلِّم الحيل الباطلة، كتعليم الرِّدَّة؛ لتبين من زوجها، أو لتسقط عنها الزكاة"(4).
وعند الحنابلة: "ولا يجوز له -أي: المفتي- ولا لغيره تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص، لمن أراد نفعه، فإنْ تَتَبَّعَ ذلك -أي: الحيل المكروهة والمحرمة والرخص-
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 160).
(2)
الحيل في الشريعة الإسلامية، د. محمد عبد الوهاب بحيري، ط مطبعة السعادة، مصر، القاهرة، (ص 66).
(3)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 413)، قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي، د. محمود حامد عثمان، دار الحديث، ط 1 - 1417 هـ - 1996 م، (ص 85 - 90).
(4)
الدر المختار، للحصكفي، (9/ 214)، مطبوع مع حاشية ابن عابدين.
فُسِّقَ وحرم استفتاؤه" (1).
وفي كتاب إبطال الحيل: "الفتوى عند أهل العلم: تعليم الحق والدلالة عليه. . . وأما من علَّم الحيلة والمماكرة في دين الله والخديعة لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور حتى يخرج الباطل في صورة الحق فلا يقال له مفتٍ"(2).
قال ابن القيم رحمه الله-في الواجب على المفتي-: "يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحَيُّلٌ على إسقاط واجب، أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده"(3).
فلا شك أن المفتي المتتبع للحيل متعرض للفسق والمنع من الفُتيا، بل وذهب بعض أهل العلم إلى تكفيره!
فقد وقع في عهد ابن المبارك (4) رحمه الله أن امرأة أُمِرَتْ بالردة لتبين من زوجها فغضب ابن المبارك لذلك غضبًا شديدًا، ثم قال:"أحدثوا في الإسلام، ومن كان أَمَرَ بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو هَوِيَه ولم يأمر به فهو كافر، ثم قال: ما أرى الشيطان كان يُحسن مثل هذا، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم، فأشاعها حينئذ، أو كان يحسنها ولم يجد من يمضيها فيهم، حتى جاء هؤلاء"(5).
(1) كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 307).
(2)
إبطال الحيل، لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري المعروف بابن بطة، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، (ص 31).
(3)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 229)، وقد نقل مثل هذا عن النووي في روضة الطالبين، (11/ 110)، وعن الحطاب المالكي في مواهب الجليل، (8/ 71).
(4)
أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي المروزي، شيخ خراسان، أحد الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام، عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته، فقيه جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، طبق علمه الآفاق فحدَّثَ عنه أئمة أعلام حتى حدَّثَ عنه بعض مشايخه كالثوري وابن عيينة، ولد سنة 118 هـ، وتوفي سنة 181 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 372)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 378).
(5)
الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (6/ 106 - 143)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 159 - 188)، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، لمحمد سعيد الحسيني، (ص 254 - 266).