الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد نظر الفاروق رضي الله عنه إلى قدسية الزمان فرأى أن الدية في أسنان الإبل تختلف باختلاف الزمان؛ ذلك أن الجناية في الشهر الحرام لا تكون كالجناية في سائر الأزمان (1).
ومن أمثلة الأحكام التي غيرها الأئمة الفقهاء معلِّلين الداعي إلى هذا بفساد الزمان: الأنواع التالية:
النوع الأول: ما يتعلق بالولاية العامة من أحكام:
وهذا كما يشمل توسيع نطاق مسئولية الولاية العامة وتطورها، يشمل -أيضًا- تضييقها وتقليصها، فمن أمثلة الجانب الأول:
1 -
تكوين المؤسسات الجديدة وتطوير القديمة؛ فمثلاً قد أسس ديوان خاص للإفتاء مع الرقابة عليه، وأسس أيضًا ديوان المظالم للتمييز، وافترقت الحسبة عن القضاء، وبدأت كتابة السجلات وترقيمها، وتحكيم الحكام نيابة عن حاكم واحد، ومنع شهادة الأقارب في المحكمة، ومنع القاضي من الحكم بعلمه، بل لا بد من الاستناد إلى البيِّنات الثابتة في القضاء (2).
2 -
أفتى أبو يوسف ومحمد بضرورة تزكية الشهود؛ نظرًا لتغير أحوال الناس وتفشي الكذب وضعف الديانة والضمير، مع أن الإمام أبا حنيفة كان يرى الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، وكان هذا الحكم مناسبًا لزمانه؛ لأن ذاك الزمان كان من خير القرون (3)، ومن ذلك: ما روي أن عمر بن عبد العزيز كان يقضي -وهو قاضٍ في المدينة- بشاهد واحد ويمين، فلما كان بالشام لم يقبل إلا شاهدين لما تغير الناس
(1) فقه عمر بن الخطاب موازنًا بفقه أشهر المجتهدين، رويعي بن راجح الرحيلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1403 هـ، (ص 452 - 453).
(2)
المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقا، (2/ 947 - 948)، تغير الأحكام، لكوكسال، (ص 102).
(3)
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1406 هـ - 1986 م، (6/ 270).
هناك عما عرفه من أهل المدينة (1).
وكان الاكتفاء بالعدالة الظاهرة في غير الحدود الشرعية، وكان سبب ذلك صلاح الناس في زمانه، لكن ضرورة تزكية الشهود جاءت بعد مدة بسبب فساد الأخلاق، ومن أجل ذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسي الأشعري رضي الله عنه بأن لا يُسمَع مُجَرَّبٌ عليه شهادة زور أو مجلود في حد أو ظنين في ولاء (2) أو قرابة؛ لأن القرآن لم يمنع من شهادة الأقارب في الأصل (3).
3 -
تدخل الإمام في التسعير للحاجة عند فساد الزمان، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير، وقال:"إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق"(4).
وحين جوَّز ذلك العلماءُ بينوا أن تحريم التسعير كان لعدم الحاجة إليه، أو وجود ما يقتضيه، فلما قامت الحاجة الداعية إليه جاز (5).
4 -
جعل الوصية بقرار من الحاكم أو السلطان؛ ذلك أن سوء استعمال الحقوق قد كثر بكثرة الفساد (6).
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 85)، تغير الأحكام، د. سها سليم مكداش، دار البشائر الإسلامية، ط 1، 1428 هـ، (ص 407).
(2)
أي متهم في نسبته لغير مواليه.
(3)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 85 - 86)، المدخل إلى فقه النوازل، أ. د. حسين مطاوع الترتوري، مؤسسة الاعتصام، (ص 81 - 82).
(4)
أخرجه: أبو داود، كتاب الإجارة، باب: في التسعير، (3451)، والترمذي، كتاب البيوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في التسعير، (1314)، وابن ماجه: كتاب التجارات، باب: من كره أن يسعر، (2200)، من حديث أنس رضي الله عنه، قال: قال الناس: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ غلا السعر؛ فسعِّر لنا! فذكره، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال". قال الترمذي: "حسن صحيح".
(5)
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن القيم، تحقيق: نايف بن أحمد الحمد، دار عالم الفوائد، ط 1، 1428 هـ، (2/ 638 - 639).
(6)
تعليل الأحكام، لمحمد مصطفى شلبي، دار النهضة العربية، بيروت، ط 2، 1401 هـ - 1981 م (ص 78، 325)، ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 178، 369 - 370).
5 -
وكذا تحديد ساعات العمل والإجازة الخاصة من قبل الحاكم بسبب فساد الأخلاق وحيل الناس إلى التعدي والاستغلال (1).
ومن أمثلة الجانب الثاني:
مسألة القول بترتيب بيت مال المسلمين ضمن عصبة الميت.
فقد كان هذا رأي طائفة من الصحابة والتابعين وقول المالكية وبعض الشافعية (2)، ومفاد المسألة أن من هلك وليس له وارث من ذوي الفروض أو العصبات فإن ما تركه يصير إلى بيت مال المسلمين، وقد شرط ابن قاسم من المالكية لذلك كون بيت مال المسلمين منتظمًا، حين قال: إذا كان الخليفة مثل عمر بن عبد العزيز صار ما تركه الهالك إلى بيت المال.
ثم لما فسد بيت مال المسلمين، ووسد الأمر إلى غير أهله في زمن بعض الخلفاء العباسيين، وظهر العبث بأموال المسلمين وصرفها في وجوه اللهو والمجون، غَيَّر الفقهاء الفتيا في هذه المسألة، فذهبوا إلى أن من مات وليس له وارث يتصدق بماله على الفقراء ولا يحوزه بيت المال.
وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل إلى القلوب بغير استئذان فإن أحكام الله لا يمكن أن تكون أداة أو وسيلة لتزكية مفاسد الأزمان والمجتمعات، والشريعة هي عدل الله في الأرض (3).
ومثل هذا تقييد سلطة ولي الأمر في فرض الضرائب بشروط وضوابط كثيرة فإن
(1) الحكم فيما لا نص فيه، د. محمد زكريا البرديسي، (ص 83 - 84).
(2)
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمد بن محمد المعروف بالحطاب الرعيني، تحقيق: زكريا عميرات، دار عالم الكتب، 1423 هـ - 2003 م، (8/ 592 - 493)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لشمس الدين محمد عرفة الدسوقي، دار الفكر، بيروت، (4/ 468)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (3/ 6 - 7)، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لشمس الدين محمد بن شهاب الدين الرملي، دار الفكر، بيروت، 1404 هـ - 1984 م، (6/ 11 - 12).
(3)
الاجتهاد وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، د. حسن العلمي، (ص 115 - 116).