الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الأدلة على اعتبار الثبات في الأحكام الشرعية:
الثبات يرجع معناه اللغوي إلى دوام الشيء على حاله (1) والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب، فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها (2).
وأما معنى مصطلح الثبات عند المتكلمين فهو: "عدم احتمال الزوال بتشكيك المشكك"(3).
ولقد تظاهرت أنواع الأدلة على تأصيل الثبات في الأحكام الشرعية، وقد مر طرف منها عند ذكر خصائص الشريعة الإسلامية، وفيما يلي بيان مختصر لهذه الأدلة:
أولًا: القرآن الكريم:
1 -
الأدلة الدالة على حفظ القرآن الكريم من التحريف:
وذلك لتبقى أحكامه ثابتة إلى ما شاء الله، كقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقوله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، فأحكامه تعالى لا تقبل الزوال أو التبديل؛ لأنها أزلية، والأزلي لا يزول (4).
أي: صدقًا فيما أخبر؛ فما أخبر به هو الحق، وعدلًا فيما حكم، فما أمر به هو العدل، وما نهى عنه فهو الباطل، ولا معقب لحكمه في الدنيا ولا في الآخرة (5)، ولا يملك أحد أن يغيرها ولا أن يبدلها ولا أن يَخرُج عن شيء من أحكامها، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
(1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (1/ 399).
(2)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 177).
(3)
كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، (1/ 536).
(4)
التفسير الكبير، لأبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسن فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 1، 1401 هـ - 1981 م، (13/ 170).
(5)
تفسير ابن كثير، (3/ 322).
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، والتغيير فيما قد كمل وتم اتهام بالنقص، بل هو عين التنقص.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، فلا سبيل لتبديل حقائقه، ولا طمس أحكامه بحمد الله تعالى.
2 -
الأدلة التي تحذر من تحريف الشرائع وتبديل الأحكام:
قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]، وفي هذا تحذير من هذا المسلك.
وقد ذكر الله طرفًا من عبث المشركين وأهل الكتاب بالأحكام، فقال تعالى:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137].
وقال في حق أهل الكتاب: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وقال تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41]، وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك صراحةً، فقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، وكان من سبب نزولها أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم
انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرَّمت عليَّ اللحمَ، فأنزلت الآية (1).
ثانيًا: السنة المطهرة:
1 -
الأحاديث الدالة على بقاء طائفة قائمة بأمر الله لا يضرها من خالفها أو خذلها إلى قيام الساعة، ومن ذلك: حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لن يَبْرَحَ هذا الدين قائمًا يقاتِل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة"(2).
حديث معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"(3).
وهذا كله مصداق قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]، وهذا يدل على حفظ الدين وبقاء أحكامه، ولا سيما الجهاد إلى يوم القيامة، كما يحمل في ثناياه البشارة الصادقة بالنصر والتمكين.
2 -
الأحاديث الآمرة بالمحافظة على ثبات الأحكام الشرعية وحرمة تبديلها، ومنها:
حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا،
(1) أخرجه: أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي في "جامعه الصحيح"، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ومن سورة المائدة، (3054)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلاً ليس فيه: عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً" اهـ.
(2)
أخرجه: مسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم"، (1922).
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، (3641)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم"، (1037).
قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة" (1).
يقول ابن رجب رحمه الله (2): "ومما حدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلام في الحلال والحرام بمجرد الرأي، ورد كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته للرأي والأقيسة العقلية"(3).
ثالثًا: الإجماع:
وهو إجماع منعقد من لدن أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول الغزالي:"والسلف من الأئمة مجمعون على دوام التكليف إلى القيامة"(4).
وقد قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة بعد مناقشة عمر رضي الله عنه ثم انعقد إجماع الصحابة عليه، وذلك أن الامتناع عن دفع الزكاة بدعوى ارتباطها برسول الله صلى الله عليه وسلم نوع تحريف وتبديل لأحكام الدين الدائمة والثابتة، فإذا كان الممتنعون أصحاب
(1) أخرجه: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في "سننه"، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر - بيروت، كتاب السنة، باب: في لزوم السنة، (4607)، والترمذي، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، (2676)، وأبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه في "سننه"، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، (42). قال الترمذي:"حديث حسن صحيح".
(2)
أبو الفرج، زين الدين، عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن البغدادي ثم الدمشقي الشهير بابن رجب الحنبلي، وهو لقب جده عبد الرحمن، وقال عنه الحافظ ابن حجر: الشيخ المحدث الحافظ، نهل في الحديث أسماءً ورجالًا واطلاعًا وطرقًا وكان صاحب عبادة وتهجد من مصنفاته: فتح الباري شرح صحيح البخاري، ولم يتم، وشرح علل الترمذي، وشرح جامع الترمذي، ولد سنة 736، وتوفي رحمه الله 795 هـ، الدرر الكامنة، لابن حجر، (2/ 321)، السحب الوابلة، لابن حميد، (2/ 474).
(3)
جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1412 هـ - 1991 م، (2/ 133).
(4)
المستصفى، للغزالي، (1/ 148).
شوكة ومنعة فقد وجب على الإمام قتالهم (1).
وقال الصديق مقالته المشهورة: "والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها"(2).
رابعًا: المعقول:
1 -
قضية الثبات في الأحكام ترتبط بقضية الإيمان بأسماء الله وصفاته من العلم والحكمة وغيرها، فأحكامه تعالى صادرة عن صفاته الكاملة وأسمائه الحسنى، فهو أعلم بخلقه وما يصلحهم وما يفسدهم، وإذا كانت الفطرة البشرية ثابتة لا تتغير فما يصلحهم كذلك.
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].
2 -
القول بعدم ثبات الشريعة يفضي إلى القول بعدم صلاحيتها للزمان والمكان، ولو قيل بعدم ثبات أحكام الشرع لبطلت لوازم نبوته صلى الله عليه وسلم في الزمان والمكان الآتي بعده، وهذا كفر، فصح أن حكمه صلى الله عليه وسلم في زمانه حكم باقٍ في كل زمان أبدَ الأبدِ (3).
وعليه فالشريعة الإسلامية ثابتة، تستعصي على التحريف والتبديل، وتتأبى على التطويع والتعطيل، ومن رامها بشيء من ذلك رمته بالكفر والتضليل.
ولقد حاول كثير من دعاة العصرانية أن ينفذوا إلى غرضهم في تبديل الشريعة وتذويب أحكامها وتطويع مبادئها للأهواء، وذلك من خلال ما اشتهر في كتب أهل العلم من تغير الأحكام بتغير الأزمان، ولا يمكنهم ذلك؛ لأن ما عناه العلماء بهذه المقولة شيء وما أرادوه شيء مختلف تمام الاختلاف، فتغير الأحكام بتغير الأزمان ليس فيه تبديل
(1) المستصفى، للغزالي، (ص 286)، أصول السرخسي، (2/ 60)، الإحكام، لأبي محمد، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، (5/ 59).
(2)
أخرجه: البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (1399، 1400)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة و. . .، (20)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
الإحكام، لابن حزم، (5/ 59).