الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنه حاصل، وتحصيل الحاصل محال.
2 -
الحكم الحاصل بالنص القطعي يقيني، والحاصل بالاجتهاد ظني، ولا يقدم الظني على اليقيني (1).
تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات:
تفتح هذه القاعدة باباً للاجتهاد عند عدم وجود النص القطعي الدلالة من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع الصحيح، ولا شك أن بناء فقه الأقليات المسلمة يحتاج إلى مثل هذا التقعيد، ولا سيما أن غايات هذا الفقه ومقاصده لا تتأتى إلا باجتهاد منضبط يصدر من أهله ويكون في محلِّه.
ومن عجب أن تروج مقالة "غلق باب الاجتهاد" في عصر كثرت نوازله، وتعددت مسائله ومشاكله، ولما تصدى الشيخ العلامة أحمد الزرقا رحمه الله لشرح قواعد مجلة الأحكام العدلية، قال:"قولهم: لا مساغ للاجتهاد في مورد النص". لا فائدة لوضعه هنا فيما يتبادر؛ لأن باب الاجتهاد مسدود الآن في وجه من يتصدى لدخوله مطلقًا، سواء كان في مورد نص لا يسوغ الاجتهاد فيه أو لا" (2)!
ثم إنه احتمل رحمه الله أن الفقهاء أوردوها إيماءً للمفتين والقضاة بأن يقفوا عند حَدِّهم، فلا تتطلع أنظارهم أو تمتد أعناقهم لمجاوزة ما فُوِّض إليهم من الاجتهاد في ترجيح إحدى الروايتين أو القولين المتساويين بحسب الحوادث والأشخاص إلى ما لم يُفَوَّض إليهم!
ثم إنه صحيح أخيرًا أن المراد بالنص في هذه القاعدة إنما هو المنقول في كتب المذهب فحسب، لا ما سبق تقرُّرُه من نصوص الكتاب والسنة والإجماع!!
(1) شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 147).
(2)
المرجع السابق، (ص 148).
وظاهر أن هذا المنحى فرع عن القول بغلق باب الاجتهاد، وهو قول شاع في القرن السابع الهجري -وإن كان قد ظهر في القرن الرابع الهجري- فنقل عن طائفة من الأصوليين كالزركشي (1)، والآمدي (2)، وقد قال الزركشي:"ولم يختلف اثنان أن ابن عبد السلام بلغ مرتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد"(3).
ويبدو أن الاختلاف والنزاع في المجتهد المطلق دون مجتهد المذهب والمجتهد المقيد؛ ولذا جاء في "مسلم الثبوت وشرحه" ما حاصله أن النزاع في المجتهد المطلق؛ لأن اللازم من دلائل الفريقين ذلك، ثم إن من حكم بوجوب الخلو من بعد العلَّامة النسفي رحمه الله فقيه مصر الحنفي (4) المتوفى (710 هـ) واختتموا الاجتهاد به عنوا الاجتهاد في المذهب، وأما الاجتهاد المطلق فقالوا: اختتم بالأئمة الأربعة،. . . ثم قال: وهذا كله هوس لا يعبأ به؛ لأن من قال به فقد أفتى من غير علم فضلَّ وأضل (5)، وأجاد ابن القيم في رده (6)، وأطال الشوكاني النفس في الرد على هذه الدعوى (7)، وحرر قبله السيوطي: "الرد على
(1) البحر المحيط، للزركشي، (6/ 207).
(2)
الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، (4/ 303).
(3)
البحر المحيط، للزركشي، (6/ 209).
(4)
أبو البركات، حافظ الدين، عبد الله بن أحمد بن محمود، النسفي، الحنفي، أحد الزهاد المتأخرين صاحب التصانيف المفيدة فى الفقه والأصول، من تصانيفه: الكافي فى شرح الوافي، والمنار في أصول الفقه، والمنار في أصول الدين، توفي سنة 710 هـ. الجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (2/ 294)، الدرر الكامنة، لابن حجر، (2/ 247).
(5)
فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، للكنوي، (2/ 431).
(6)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 212)، وما بعدها.
(7)
إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1035 - 1042).
من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض".
وعلى منواله نسج الشيخ المراغي (1)، وأكد عليه د. محمد سلام مدكور (2) وجمع كبير من العلماء المعاصرين.
وتجدر ملاحظة مهمة وهي أن الذين قالوا بجواز خلو العصر عن مجتهد لم يكتفوا به في عصرهم، وإنما تعدَّوه إلى كل عصر بعد عصرهم، ثم زادوا فقالوا بوجوب تقليد المذاهب المتبوعة، وبانحصار الحق فيها وحدها؛ لأنها مضبوطة، فأفضى هذا مع بعض المتعصبة إلى أن صار التقليد واجبًا وليس جائزًا، والاجتهاد ممنوعًا أو مستنكرًا.
وإذا كان السيوطي قد أطلق دعوى الاجتهاد المطلق لنفسه، وعدَّ نفسه مجدد القرن التاسع الهجري فإن طائفة من العلماء في قرنه وما جاء بعده من قرون قد برزوا وفاقوا، وتفوقوا وألفوا وصنفوا، وادعي لهم الاجتهاد، كان لم يدعوه لأنفسهم.
قال الشيخ الفاضل ابن عاشور رحمه الله: "ولكن اثنين ارتفعا ارتفاعًا فائقًا إلى مقام الاجتهاد: أولهما من الهند وهو ولي الله الدهلوي (ت: 1176 هـ)، وثانيهما من اليمن وهو الإمام محمد بن علي الشوكاني (ت: 1250 هـ)، فهذان هما اللذان استقلَّا بالنظر في المسائل استقلالًا تامًّا شاملًا، وجدَّدا معاني الأصول، ومعاني الأحكام، لا سيما ثانيهما الذي توفي في أوائل القرن الماضي، فلقد ترك من بين كتبه المهمة شاهدين زكيين في كتاب نيل
(1) محمد بن مصطفى بن محمد بن عبد المنعم المراغي، ممن تولوا مشيخة الجامع الازهر، وولي أعمالًا منها: القضاء الشرعي، فقضاء القضاة في السودان سنة 1908 - 1919 م، وعين شيخًا للأزهر سنة 1928 م، من مصنفاته: بحث في ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، وبحوث في التشريع، وغير ذلك، ولد سنة 1298 هـ، وتوفي سنة 1364 هـ. الأعلام، للزركلي، (7/ 103)، معجم المؤلفين، لعمر كحالة، (12/ 34).
(2)
الاجتهاد في التشريع الإسلامي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 1، 1404 هـ - 1984. (ص 92 - 102)، مناهج الاجتهاد، (ص 424)، وكلاهما، للدكتور مدكور.
الأوطار، وكتاب إرشاد الفحول، على أنه قد ارتقى إلى مقام النظر في الأدلة، والاستنباط منها، وأنه لم يَقُل في مسألة من الفقه إلا بما أداه إليه الدليل، وأن له في الأدلة ومناهجها أنظارًا تساوي الأنظار الاجتهادية الأصلية التي بنيت عليها كتب أصول الفقه" (1).
وعليه فإن باب الاجتهاد مفتوح لكل من كان له متأهلاً، وهم بحمد الله موجودون في كل عصر؛ إذ لا يخلو عصر من مجتهد قائم لله بالحجة، ولا يزال الله تعالى -بكرمه ومنِّه- يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته (2)، ويأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره، وتجديدُ الله تعالى دين هذه الأمة متحقق ببعث المجددين على رأس كل مائة سنة (3).
وإذا كانت هممٌ في هذا الزمان قد تقاصرت، فإن سبلًا لتحصيل العلم قد تيسرت، وإذا كان الحصول على نسخة من كتاب في الزمان الأول ربما تعذَّر أو تعسَّر؛ فإن كنوز السنة وذخائر الفقه والأصول في هذا الزمان قد توفرت، ولا يخفى على مُطَّلع أن زمان الحواسيب الآلية اليوم مَكَّنَ -بفضل الله- من الاستفادة من تراث العلماء، وذخائر التراث بشكل لا مثيل له، ولم يخطر لأحدٍ على بالٍ، فصار جواز الاجتهاد شرعًا متحققًا وواقعًا ممكنًا، فلم يبق إلا أن يشمر لهذا الفضل أهله، وأن يتصدى لهذا الخير طلابه، وفي الحديث:"يحمل -وفي رواية: يرث- هذا العلم من كل خلف عدوله. . . "(4).
(1) الاجتهاد، بحث للشيخ الفاضل ابن عاشور، مطبوع في كتاب المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامي بالقاهرة، (ص 62).
(2)
أخرج ابن ماجه، المقدمة، باب: اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته"، وصححه ابن حبان (2/ 32).
(3)
أخرج أبو داود، كتاب الملاحم، باب: ما يذكر في قرن المائة، (4291)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". وصححه الحاكم (4/ 522).
(4)
أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الشهادات، باب: الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث فيقول: كفوا عن حديثه. . .، (10/ 209) -والرواية الثانية له-، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" =
وقد قيل: كم ترك الأول للآخر!
وأخيرًا فإن الاجتهاد يتجزأ، فلا مانع أن يقع اجتهاد في باب دون باب، وأن يتخصص على هذا النحو في الأقليات ومسائلهم فقهاء، وأن يُعنى بتدبير شأنهم في الفُتْيَا والنوازل خاصة علماء فضلاء، فيفيدوا من تراث الأئمة الفقهاء ويزيدوا تفريعًا وتخريجًا تارة، وإنشاءً وابتداءً تارة؛ بل وتارات!
كما يتجه الاجتهاد المعاصر في هذا الشأن أيضًا إلى تقديم البحوث والدراسات المتخصصة والمتعمقة، التي تجمع بين رعاية الكليات والجزئيات في سياق واحد، فلا بد من اعتبار خصوص الجزيئات بنصوصها التفصيلية مع اعتبار كلياتها، وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد (1).
ومراعاة النصوص التفصيلية في خصوص المسائل الجزئية مع اعتبار المقاصد التشريعية هو ما يحقق تمام الانسجام بين الأحكام في وحدة متكاملة مترابطة الأجزاء، متصلة الحلقات، في توازن حكيم، لا يميل جهة المقاصد والكليات، ويطرح النصوص الجزئية ويهدر الاحتكام إلى الآية والحديث، ولا يتخذ من نص جزئي قاعدة مستقلة ولو عارضت كلية من كليات الشريعة تضافر على إقامتها ما لا يحصى عدًّا من الأدلة الجزئية.
وتفريعًا على ما تقرر من أنه لا مساغ للاجتهاد في موارد النصوص القاطعة، فلا وجه للقول بجواز نكاح الكتابي للمسلمة في بلاد غير المسلمين، أو التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث ببلاد الأقليات، أو أن تستباح المحرمات وترتكب المنهيات خارج
= (7/ 37، 38) -واللفظ له-، من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري (وقد اختلف في صحبته)، ومن حديثه عن الثقة من أشياخه. وروى من أحاديث: أنس بن مالك، وابن عمر، وأسامة بن زيد، وأبي أمامة، وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة معًا رضي الله عنهم. وصححه الإمام أحمد رحمه الله؛ كما في "تاريخ دمشق"(7/ 39).
(1)
الموافقات، للشاطبي، (3/ 13).
ديار الإسلام بادعاءات تسويغية، أو مماحكات تبريرية، تهدر النصوص الشرعية ولا يتحقق معها شيء معتبر من المصالح المرعية؛ إذ ليس من معنى الاجتهاد -في قليل أو كثير- أن تلبس الأوضاع الجاهلية لبوس الإسلام، أو أن يرقع الواقع الذي نشأ بعيدًا عن دين الله تعالى بنظريات أو فتاوي تضفي الشرعية على وجوده أو تعطي المصداقية لتناقضاته.
وخير للأقليات المسلمة -في عاجل أمرها وآجله- أن تسعى لتحقيق هويتها وتأكيد خيريتها بانتسابها إلى الدين الحق، وما خرج عن هذا السياق فإنه لا يعدو أن يكون استثناء يؤكد هذا المعنى ويستبقيه ولا يدحضه أو يلغيه.
وبالجملة فإن الاجتهاد في نوازل الأقليات المسلمة أمر لا بد منه ولا غنى عنه، وكلما كان جماعيًّا أو مجمعيًّا كان أقرب للصواب غالبًا، وأدنى للنفع، وأقدر على تحقيق مقاصد الشرع.