الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصل الثَالِثُ
الأصول والقواعد الحاكمة لفقه نوازل الأقليات
المبحث الأول: القواعد الأصولية والمقاصدية والفقهية والفرق بينها.
المبحث الثاني: القواعد المتعلقة بالاجتهاد.
المبحث الثالث: القواعد المتعلقة بالرخص والمشقات.
المبحث الرابع: القواعد المتعلقة بالضرورات والحاجات.
المبحث الخامس: القواعد المتعلقة بالمقاصد.
المبحث السادس: القواعد المتعلقة بالتعارض والترجيح بين المصالح والمفاسد.
المبحث السابع: القواعد المتعلقة بالمآلات.
المبحث الثامن: القواعد المتعلقة بالعرف.
المبحث التاسع: القواعد المتعلقة بالولاية والسياسة الشرعية.
تَمْهيد
لا اختلاف على أنه من النوازل المعاصرة وجود أقليات مسلمة تقيم بصفة دائمة ومستمرة في بلاد لا تدين بالإسلام، ولا تعترف بسلطانه، وهذه حالة لم تكن معروفة من قبل، وما عرف منها في النادر الشاذ لم يكن بهذا الحجم ولا بهذا الشكل، وقد أصبحت هذه الأقليات تمثِّل وجودًا مهمًّا للإسلام في غير بلاده ودياره؛ إذ بممارستها لشعائر الإسلام تنتشر الدعوة الإسلامية، ويزداد دخول الناس في دين الله، وتتضح الصورة الحقيقيَّة للإسلام بما فيه من عدالة ورحمة وسعة، بل وأصبح يراود المسلمين في السنوات الأخيرة شعورٌ بالأمل في أن يكون لهذه الأقليات حضور فاعل أكبر وتأثير أكبر على مستوى القرارات العالمية؛ لينعكس ذلك إيجابيًّا على الإسلام وأهله.
وغير خافٍ أن هذه الكيانات المسلمة تُعاني مشاكل كثيرة، تطرح بسببها أسئلة فقهيَّة كبيرة نابعة من واقعها الحضاري المعقد، ووضعها الاستثنائي في إطار مجتمع له تشريعاته وقوانينه التي لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة، وهذه الأسئلة كثيرة ومتنوعة؛ بعضها يتعلق بالمعاملات المالية حيث يسود التعامل بالربا ويشرع، ويؤاجِر المسلم نفسه للكافر فيعمل معه في محلات تقدَّم فيها الأطعمة والأشربة المحرمة، وبعضها يتعلق بالأحوال الشخصية حيث قد يسلم أحد الزوجين وييقى الآخر كافرًا، إلى غير ذلك، وبعضها يتعلق بالمرجعية عند التنازع والخصام حيث تنفرد القوانين والمحاكم الوضعية بالمرجعية، فماذا يفعل هؤلاء المسلمون المستضعفون؟
"لو أن هذا الوضع حدث في طور ازدهار الاجتهاد الفقهي وتعدد المجتهدين وقدرتهم على الاستنباط من الكتاب والسنة وتأصيل الأحكام وتعليلها، لوجد الحلول المناسبة والإجابات الشافية، لكن مع الأسف حدث هذا الوضع في عصر الجمود والتقليد وضعف الاجتهاد وقلة أهله، فأصبح عبئًا ثقيلًا على الفقه الإسلامي؛ إذ لا تمكن معالجته من خلال تراثنا الفقهي، وإنما تمكن معالجته من أصول هذا الفقه وقواعده
ومقاصد الشريعة وأدلتها العامة، إذا وجد من يصلح لأن ينظر في ذلك ويستثمره" (1).
ولا يخفى أن "أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاعُ ضرورةٍ بالمعنى العام للضرورة، الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص"(2).
ومما ينبغي التنبه له: أنه قد ذهب بعض المعاصرين إلى القول بأن هذا الفقه هو فقه جديد في مأخذه وتأصيله حيثما يقول أحد الباحثين: "وعلى كل حال فإن واقع هذه الأقليات الإسلامية -التي نرجو لها أن تكون أكثريات في القريب العاجل- لا بد أن ينظر بعين الاعتبار؛ إذ لا يمكن أن تعامل بما تعامل به المجتمعات التي تعيش في ظل دول إسلامية، وفي وطن إسلامي، مما يستدعي منَّا أن ننتج فقهًا جديدًا يُدعَى (فقه الأقليات الإسلامية) "(3).
ويقول باحث آخر: "والحق أن مشكلات الأقليات المسلمة لا يمكن أن تواجه إلا باجتهاد جديد، ينطلق من كليات القرآن الكريم، وغاياته، وقيمه العُليا، ومقاصد شريعته، ومنهاجه القويم، ويستنير بما صحَّ من سنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في تطبيقاته للقرآن وتنزيله لقِيَمِه وكلياته في واقع عصر النبوة؛ وذلك لبلورة منهجية التأسي بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وجَعْلِ سنته محجةً بيضاءَ يستطيع المتقون التأسي بها واتباع منهجها في كل عصرٍ ومصر"(4).
ويزيد الأمر وضوحًا فيقول: "أما الفقه الموروث في مجال التنظير لعلاقة المسلمين بغيرهم فهو -على ثرائه وتنوعه وغناه وتشعبه- قد ارتبط أغلبه بالواقع التاريخي الذي أُنتج فيه، وصار جزءًا من ذلك الواقع بحيث يتعذر تطبيق جزئياته على أي واقع آخر
(1) التنظير والتأصيل لفقه الأقليات الإسلامية، أ. محمد المختار ولد امباله، (ص 66).
(2)
صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 165).
(3)
التنظير والتأصيل لفقه الأقليات الإسلامية، لمحمد المختار ولد امباله، (ص 66).
(4)
في فقه الأقليات المسلمة، د. طه جابر العلواني، دار نهضة مصر، ط 1، 2000 م، (ص 11).
مغاير لذلك الواقع التاريخي نوعيًّا؛ ولذلك فلا بد من اعتباره سوابق فقهية يتم النظر فيها واستيعابها والعمل على تجاوزها بعد أخذ الدرس منها، والبناء على الأصول التي ساعدت فقهاء الأمة في الماضي على إنتاج ما أنتجوا. . . " (1).
وبكل وضوح فإن هذا الاتجاه لا يخلو من مخاطرة أو مجازفة؛ ولهذا يرد فضيلة الدكتور عبد الله بن بيَّه على هذا الاتجاه فيقول: "ولا يعني ذلك إحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة، وما ينبني عليهما من الأدلة؛ كالإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، والاستصحاب، إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة والتي تمثل ثراءً وسعةً، فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع"(2).
ويشير فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي إلى هذه المسألة بقوله: "إن (فقه الأقليات) المنشود لا يخرج عن كونه جزءًا من الفقه العام، ولكنه فقه له خصوصيته، وموضوعه، ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه"(3).
ثم يقول: "فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كي يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم، وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور في فقهنا الإسلامي، ولكنها غير منظَّمة، وهي مجملة غير مفصَّلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها؛ لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها"(4).
وهذا كله يؤكد بجلاء على أهمية العناية بالتأصيل والتنظير لهذا الفقه ووضع
(1) المصدر السابق، (ص 11).
(2)
صناعة الفتوى وفقه الأقليات، د. عبد الله بن بيه، (ص 165).
(3)
في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 32).
(4)
المصدر السابق، (ص 32).
قواعده وتأسيس بنيانه، مع رعاية الأصول الشرعية الحاكمة، والقواعد الضابطة لاستنباط الأحكام بشكل عام.
وفي محاولة لتأصيل فقه النوازل للأقليات المسلمة يقول فضيلة الدكتور ابن بيَّه: "فقه الأقليات كسائر فروع الفقه، يرجع إلى مصدري الشريعة: الكتاب والسنة، إلا أنه عند التفصيل يرجع:
أولًا: إلى كلِّيات الشريعة القاضية برفع الحرج، وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات، واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات، وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان، ودرء المفاسد، وارتكاب أخف الضرين وأضعف الشَّرَّين، مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة.
فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين (1).
وهي كليات شهدت الشريعة باعتبار جنسها فيما لا يحصر ولا يحصى من النصوص.
ثانيًا: يرجع فقه الأقليات إلى نصوص جزئية تنطبق على قضايا وموضوعات ماثلة في ديار الأقليات، وتشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة.
ثالثًا: يرجع فقه الأقليات إلى أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سببًا لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان، وهو منقول عن عمرو بن العاص من الصحابة، وعن أئمةٍ؛
(1) أعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 3).
كالنخعي (1)، والثوري (2)، وأبي حنيفة، ومحمد، ورواية عن أحمد، وعبد الملك بن حبيب من المالكية (3).
وهو مؤصَّل من أحاديث؛ كالنهي عن إقامة الحدود في أرض العدو: أصله حديث أبي داود والترمذي وأحمد بإسناد قوي: "لا تقطع الأيدي في السفر"(4)، ومرسل مكحول (5):"لا ربا بين مسلم وحربي"(6).
(1) أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس الكوفي، فقيه العراق، الإمام الحافظ، أحد الأعلام، روى عن مسروق، وعلقمة بن قيس، وعبيدة السلماني، روى عنه الحكم بن عتيبة، وعمرو بن مرة، وحماد بن أبي سليمان تلميذه، توفي سنة 95 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 270)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 520).
(2)
أبو عبد الله، سفيان بن سعيد بن مسروق، الثوري، الكوفي، سمع عمرو بن مرة، وحبيب بن أبي حبيب، وروى عنه شعبة، وابن المبارك، ويحيى القطان. ولد سنة 97 هـ، وتوفي سنة 161 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 371)، التاريخ الكبير، للبخاري، (4/ 92).
(3)
أبو مروان، عبد الملك بن حبيب بن سليمان، فقيه أهل الأندلس، روى عن أصبغ، وأسد بن الفرات، وابن الماجشون، وروى عنه بقي بن مخلد، ومحمد بن وضاح، توفي سنة 238 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، ص 162)، الديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 8).
(4)
أخرجه: أبو داود، كتاب الحدود، باب: في الرجل يسرق في الغزو أيقطع، (4408)، والترمذي، كتاب الحدود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء أن لا تقطع الأيدي في الغزو، (1450) -وعنده:"الغزو" بدل "السفر"-، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في "سننه الصغرى"، ترقيم: عبد الفتاح أبي غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، 1406 هـ / 1986 م، كتاب قطع السارق، باب: القطع في السفر، (4979)، قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 289) عن إسناد أبي داود:"إسناده مصري قوي".
(5)
أبو عبد الله، مكحول، الشامي، الدمشقي، عالم أهل الشام، روى عن أنس بن مالك، وأبي هند الداري، وواثلة ابن الأسقع، وروى عنه الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، توفي سنة 112 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 453)، الجرح والتعديل، (8/ 407).
(6)
ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله في "كتاب سير الأوزاعي" من كتابه "الأم"، تحقيق وتخريج: د. رفعت فوزي عبد المطلب، دار الوفاء بالمنصورة - مصر، ط 1، 1422 هـ / 2001 م، (9/ 249)، ومن طريقه: الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي في "معرفة السنن والآثار"، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي بحلب، ط 1، 1411 هـ / 1991 م، (13/ 276)، قال: "قال الأوزاعي: الربا عليه حرام في دار الحرب وغيرها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع من ربا الجاهلية ما أدركه الإسلام من ذلك، وكان أول ربا وضعه ربا العباس بن عبد المطلب؛ فكيف يستحل السلم أكل الربا في قوم قد حرم الله عليه دماءهم =
فانطلاقًا من هذه الأسس التي سنتوسع فيها، ومن الأدلة الإجمالية، والأدلة التفصيلية، وآراء أهل العلم؛ يكون اجتهاد العلماء ترجيحيًّا انتقائيًّا أو إبداعيًّا إنشائيًّا وإن كنت شخصيًّا أميل إلى النوع الأول، ولا أجسر على النوع الثاني إلا بشاهد -أي: بنوع من التخريج- لأن النوع الأول اختيار من أقوال العلماء لمصلحة اقتضت هذا الاختيار، أو لدرء مفسدة قد يؤدي إليها تطبيق القول المتروك، وبصفة أكثر دقة فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب:
1 -
اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة قياسًا على المنصوص في الأصلين؛ الكتاب والسنة.
2 -
واجتهاد في تحقيق المناط، وهو اجتهاد لا ينقطع أبدًا، كما يقول الشاطبي؛ لأنه تطبيق للقاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة، وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون، بل يستوي فيه المجتهد والمقلد.
3 -
أما النوع الثالث فهو اجتهاد ترجيحي وهو اختيار قول قد يكون مرجوحًا في وقت من الأوقات؛ إما لضعف المستند -وليس لانعدامه- فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك، وهذا ما يسمى عند المالكية "جريان العمل"؛ فلهذا، فتسليط الأنواع الثلاثة
= وأموالهم؟ وقد كان المسلم يبايع الكافر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يستحل ذلك. وقال أبو يوسف: القول ما قال الأوزاعي: لا يحل هذا عندنا ولا يجوز، وقد بلغتنا الآثار التي ذكر الأوزاعي في الربا. وإنما أحل أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا ربا بين أهل الحرب. . . "، ثم قال الإمام الشافعي:"القول كما قال الأوزاعي وأبو يوسف، والحجة كما احتج الأوزاعي، وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت؛ فلا حجة فيه".
يراجع: "نصب الراية لأحاديث الهداية"، لجمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي، تحقيق: محمد عوامة، مؤسسة الريان، بيروت ودار القبلة للثقافة الإسلامية بجدة - السعودية، ط 1، 1418 هـ / 1997 م، (4/ 44)، و"الدراية في تخريج أحاديث الهداية"، لأحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، دار المعرفة، بيروت، (2/ 158)، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السيء على الأمة"، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1412 هـ / 1992 م، (6533).
للاجتهاد يكون في ضوء العناصر الثلاثة التي تحكم الفتوى وهي: واقع الأقلية، والأدلة الإجمالية، والأدلة التفصيلية.
من كل ذلك تنشأ الفتوى في جدليَّةٍ وتداخل وتكامل وتفاعل ينتج منه توازن بين الدليل والواقع يضبط به الفقيه طبيعة الفتوى ويرى به الحكم من خلال مرتبة الحاجة، ومرتبة الدليل، ومرتبة الحكم، وكذلك من خلال التعامل بين الكلي والجزئي، وهو تعامل دقيق لا يجوز فيه إهمال أي منهما، بل يعطى كل منهما قدر ما يستحق من الحكم؛ ولهذا أصَّل المالكية لما سموه بالقاعدة البينية، وهي إعطاء قضية واحدة ذات وجهين حكمين مختلفين باعتبار وجود دليلين.
وسترى هذه الأنواع من الاجتهاد من خلال مطالعة مشهد أوضاع الأقليات فيما يتعلق بأنكحتهم ومعاملاتهم المالية وعوائدهم في الأكل واللباس، وفي التعامل مع الناس، في تهاني الأفراح والتعازي في الأحزان والأتراح، في الانخراط في الأحزاب والترشح والانتخاب. . . إلى آخر القائمة.
فالأقليات تواجه تحديات عنيدة على مستوى الفرد الذي يعيش وسط بيئة لها فلسفتها الماديَّة التي لا مجال فيها للوازع الديني، وعلى مستوى الأسرة التي تحاول التماسك في خضمِّ مجتمع تفككت فيه الروابط الأسريَّة، واستحالت فيه العلاقة الزوجية بين الزوجين، والأبوية بين الأبناء والأبوين، إلى علاقة غير قائمة على أسس من القوامة الإيجابية.
أما على مستوى المجتمع المسلم الصغير الذي يساكن هذه المجتمعات، فهو مبعثر لا ينتظمه ناظم، ولا يجمع شتاته جامع، فالتحدِّيات تطاول العقيدة التي نعني بها: أن يكون المرء مسلمًا مؤمنًا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وليس بالضرورة أشعريًّا ولا سلفيًّا ولا معتزليًّا وغير ذلك من التفسيرات التي تشوِّش على العامِّي.
ولعل العقيدة التي كتبها محمد بن أبي زيد القيرواني في صدر "الرسالة" والتي ترجع إلى نصوص الكتاب والسنة لا يختلف عليها طوائف أهل السنة، هي أفضل شيء يتعلمه المسلمون في المهاجر؛ لبساطتها وسلامتها من الجدل والتشويش.
كما تُطَاول ممارسة العبادة مع ما يتطلبه من تكوين الجماعة المسلمة والمؤسسات الإسلامية من مساجد ومدارس ومراكز.
كما تطاول العلاقة بالآخر، وإيجاد وسائل التعايش التي تجنِّب المسلم الذوبان الثقافي، وكذلك تحرسه من التقوقع والعزلة؛ ليصبح في النهاية عضوًا فعَّالًا في المجتمع مُمكَّنًا، أسوة بنبي الله يوسف عليه السلام عندما خاطب ملك مصر بقوله:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
كل ذلك يحتاج إلى فقه نفس يوازن بين الدليل وبين الواقع، مع ورع لا تشوبه وسوسة، وجسارة لا ينغِّصها تهتك ولا جرأة" (1).
وقد حاول الشيخ أن يجمع تلك الأصول نظمًا قائلًا:
عُقُوْدُ المُسْلِمِينَ بِدَارِ غَرْبٍ
…
تَجَاذَبُهَا المَقَاصِدُ وَالْفُرُوعُ
وَمِيْزَانُ الْفَقِيهِ يَجُورُ طَوْرًا
…
إلى طَرَفٍ فَيُفْرِطُ أَوْ يَضِيْعُ
فِفِي الْجُزْئِيِّ ضِيْقٌ وَانْحِصَارٌ
…
وَفِي الكُلِّيِّ مُنفَسَحٌ وَسِيْعُ
وَنُوْرُ الْحَقِّ مَصْلَحَةٌ تُوَازَى
…
بِجُزْئِيِّ النُّصُوصِ لَهُ سُطُوْعُ
مَآلَاتُ الْأُمُورِ لَهَا اعْتِبَارٌ
…
وحَاجِيُّ الضَّرُوْرَةِ قَدْ يُطِيْعُ
فَزِنْ هَذَا بِذَاكَ وَذَا بِهَذَا
…
يَكُنْ في الْقَيْسِ مَنْهَجُكَ الْبَدِيْعُ
فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أمْرًا فَدَعْهُ
…
وَجَاوِزْهُ إِلَىَ مَا تَسْتَطِيْعُ (2)
(1) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، د. عبد الله بن بيَّه، (ص 169 - 172).
(2)
المرجع السابق، (ص 166).