الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: القواعد الأصولية والمقاصدية المتعلقة بالاجتهاد:
بعد البحث واستقراء القواعد الأصولية والمقاصدية المتعلقة بالاجتهاد، والتي يمكن الإفادة منها في تأصيل فقه النوازل للأقليات المسلمة، فقد أمكن انتقاء وترتيب القواعد الأصولية والمقاصدية الآتية:
القاعدة الأولى: الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة
.
القاعدة الثانية: الاجتهاد المحقق لشروطه معتبر شرعًا.
القاعدة الثالثة: ليس على المجتهد التقيُّد بالمذاهب الفقهية.
القاعدة الرابعة: على المجتهد الجمع بين فقه النص والواقع.
وتفصيل هذه القواعد على النحو الآتي:
القاعدة الأولى: الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة (1):
هذه القاعدة قاعدة مقاصدية تتعلق بعموم التكليف بالشريعة.
المعنى العام للقاعدة:
أفادت هذه القاعدة أنه لا يخرج أحد من الخلق كائنًا من كان عن أن يكون مخاطبًا بجميع أحكام الشريعة، فتثبت أحكامها الغراء لكل مكلف، وهي صالحة للخلق كافة على اختلاف أجناسهم وأمصارهم وأعصارهم؛ فلا يحاشى أحد من الدخول تحت أحكامها، ولا تحاشى نازلة من النوازل أن تدل الشريعة على حكمها بالنص عليها أو بالاستنباط منها.
فالناس كبيرهم وصغيرهم، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم، مخاطبون بأحكامها ومكلفون بأعمالها والوقاع المعهودة والغريبة، الصغيرة والكبيرة، المستجدة
(1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 244).
والقديمة، الواقعة في غير بلاد الإسلام، والكائنة في بلاد الإسلام -لا تخرج في أحكامها عن سلطان الشريعة، فلا توجد واقعة ولا مكلف مسلم في أي زمان أو مكان يسعه الخروج عن أحكام الشرعية الغراء، وهذه القاعدة تعد فاتحة قواعد التأصيل لهذا الفقه، لأهمتيها البالغة ولابتناء ما يأتي عليها من قواعد حاكمة وأصول ضابطة.
أدلة القاعدة:
دل على هذه القاعدة الكتاب والسنة والمعقول والإجماع، وذلك على التفصيل التالي:
أولًا: القرآن الكريم: وقد دلت آيات كثيرة على هذا المعنى، منها:
قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].
وجه الدلالة:
الآيات الثلاث السابقة تدل بجملتها على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، وعموم تكليف الناس بها، وعموم أمره صلى الله عليه وسلم بتبليغ جميع الدين.
قال ابن كثير (1): "وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة، أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم"(2).
ثانيًا: السنة المطهرة:
قوله صلى الله عليه وسلم: "كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود"(3).
(1) أبو الفداء، عماد الدين، إسماعيل بن عمر بن كثير، الدمشقي، الشافعي، من مصنفاته: تفسير القرآن، والبداية والنهاية، وتخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب، سمع من ابن الشحنة، وابن عساكر، والمزي، ولد سنة 701 هـ، وتوفي سنة 774 هـ. الدرر الكامنة، لابن حجر، (1/ 373)، البدر الطالع، للشوكاني، (1/ 102).
(2)
تفسير ابن كثير، (3/ 489).
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب التيمم، (335) -وعنده:"وبُعثت إلى الناس عامة"، وفي رواية:"كافة"-، =
وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار"(1).
وجه الدلالة:
المراد بالأمة في الحديث الثاني: أمة الدعوة؛ أي: كل من دعاه إلى الإيمان؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "يهودي ولا نصراني": بدل من قوله: "من هذه الأمة"؛ أي: بدل من (الأمة)، بدل بعض من كل (2).
والحديثان يدلان على عموم الشريعة لكل الأمة في كل زمان ومكان؛ فكل من
تبلغه دعوة الإسلام، ويسمع بالرسول صلى الله عليه وسلم على الوصف الحقيقي، خاليًا من التشويه والتحريف، ومات ولم يؤمن بالذي أرسل به صلى الله عليه وسلم؛ فإنه من أصحاب النار.
الإجماع:
أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم؛ ولذا صيَّروا أفعال النبي صلى الله عليه وسلم حجة للجميع في أمثالها، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم إما بالقياس، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي، أو غير ذلك من المحاولات (3).
المعقول:
أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام، حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس، لجاز
= ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، (521) -واللفظ له-، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعًا:"أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي. . . " فذكر هذا من هذه الخمس.
(1)
أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، (153)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
إكمال إكمال المعلم، شرح صحيح مسلم، لأبي عبد الله محمد بن خلفة الأبي، دار الكتب العلمية، بيروت، (1/ 263).
(3)
الموافقات، للشاطبي، (2/ 246).
مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر، وهذا باطل بإجماع، فما لزم عنه مثله.
وعليه فكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق (1).
وقد عدَّ الشاطبي من فوائد هذه القاعدة الأصولية: إثبات القياس على منكريه من جهة أن الخطاب كان يرد خاصًّا ببعض الناس، ولم يرد في كل قضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور، فأرشد ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها، وهو معنى القياس.
كما أنها أفادت أيضًا أن الصوفية داخلون تحت أحكام الشريعة، وأن ما يذكره الزنادقة من أن التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص باطل تهدمه هذه القاعدة الأصولية (2).
تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات:
هذه القاعدة تتعلق بالأقليات المسلمة من حيث هي تؤصل لدخول جميع المكلفين في الخطاب بالشريعة، سواء أكانوا من المسلمين المقيمين في غير بلاد المسلمين، أم كانوا في بلاد المسلمين، أم كانوا من غير المسلمين.
وقد تقدم أنه قد تحفظت بعض المجامع الفقهية المعاصرة على مصطلح "الأقليات" و"الجاليات"؛ لما قد تحمله من دلالات سلبية وغير معبرة.
وقد جاء في القرار رقم (151) الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته السادسة عشرة بدبي (بدولة الإمارات العربية المتحدة)، ما يلي:
(1) المصدر السابق، (2/ 246 - 247).
(2)
الموافقات، للشاطبي، (2/ 247 - 248).
1 -
ينبغي استبعاد تسمية الوجود خارج العالم الإسلامي بـ"الأقليات"؛ أو "الجاليات"؛ لأن تلك التسميات مصطلحات قانونية لا تعبِّر عن حقيقة الوجود الإسلامي الذي يتصف بالشمولية والأصالة والاستقرار والتعايش مع المجتمعات الأخرى، وأن التسمية المناسبة هي مثل:(المسلمون في الغرب)، أو (المسلمون خارج العالم الإسلامي)(1).
كما أن المؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا المنعقد بكوبنهاجن بالدانمرك قد درس في فعالياته التعبير بفقه الأقليات؛ فبيَّن القرار أن هذا التعبير إن قصد به الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية لنوازل الأقليات الإسلامية من خلال القواعد الشرعية المقررة في باب الاجتهاد، وتفعيل الأصول الاجتهادية التي تتعلق بالأحوال الاستثنائية كقاعدة: المصالح، والمآلات، والضرورات، ونحوها، واعتبار خصوصية هذه الأقليات من حيث الاغتراب والالتزام القانوني بأنظمة المجتمعات التي يعيشون فيها، والتطلع إلى تبليغ الدعوة لأهلها، فإن ذلك حق، وينبغي أن يعان عليه من دعا إليه.
أما إن قصد به تتبع الزلات، وتلمس شواذ الأقوال والتلفيق بين آراء المجتهدين، بدعوى التجديد وتحقيق المصالح، فإن هذا مسلك باطل، يفضي في نهاية المطاف إلى فصل هذه الأقليات عن جذور أمتها في الشرق، وتأسيس فقه محدث لنوازلها، وأصول بدعية للاجتهاد فيها، وينبغي التحذير منه، وبيان سوء مغبته، وبذل النصيحة اللازمة لأصحابه (2).
وهذا القرار وغيره يؤكد من جهة على خضوع جميع المسلمين تحت قاعدة التكليف الكلية بالشريعة الإسلامية أصولًا وفروعًا، كما يؤكد على واقعية الشريعة في اعترافها بالضرورات والحاجات في حياة الناس، سواء أكانت فردية أم جماعية.
كما تظهر الموازنة بين نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا تُعطل
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة السادسة عشرة، ط 1، 1428 هـ - 2007 م، (4/ 711 - 712).
(2)
البيان الختامي للمؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا في جمادى الأولى، عام 1425 هـ، يونيو 2004 م.