الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النصوص الجزئية من الكتاب والسنة بدعوى المحافظة على روح الشريعة ومقاصدها، ولا تُترك رعاية المقاصد الكلية استمساكًا بالمسائل الجزئية، مع تأصيل مبدأ تغير الفُتْيَا بتغير الزمان والمكان والحال والأشخاص، وتُراعى أهمية الموازنة بين المحافظة على الوجود الإسلامي للمسلمين خارج البلاد الإسلامية، والدفاع عن الهوية والخصوصية الدينية والحضارية والثقافية، ومقتضيات ما يسمى بالمواطنة في بلاد غير المسلمين.
وهي من جهة أخرى تمهد للرد على من حاول إخراج الوجود الإسلامي في بلاد الأقليات عن سلطان الفقه والأصول والقواعد الشرعية، وذلك بابتداع أو إحداث أصول جديدة.
القاعدة الثانية: الاجتهاد المحقق لشروطه معتبر شرعًا:
المعنى العام للقاعدة:
حتى يكون الاجتهاد معتبرًا فله شروط تتعلق بالمجتهِد، وشروط تتعلق بالمجتهَد فيه.
وإذا صدر الاجتهاد ممن تحققت فيه شروط المجتهد الشخصية من الإسلام والتكليف والعدالة وفقه النفس، وكذا شروط المجتهد العلمية المطلوبة لدى الاجتهاد المطلق أو المقيد من معرفة كتاب الله العزيز، وآيات الأحكام فيه، وما يتعلق بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، والسنة المطهرة وأحاديث الأحكام فيها، وما يتميز به المقبول من المردود، والصحيح من السقيم، ومعرفة اللغة العربية وأساليبها وتراكيبها، وطرائق أهلها، بما يميز به صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، ومعاني الألفاظ والتراكيب، ووجوه الدلالات المختلفة، ومعرفة علم أصول الفقه وقواعد الاستدلال، وأصول الاستنباط، وطرق الترجيح، ومعرفة مسائل الإجماع ومواقعه، ومسائل الخلاف ومظانه، ومقاصد الشريعة، وما بنيت عليه من جلب المصالح ودفع المفاسد، وغير ذلك مما يطلب في شخص المجتهد وصفاته العلمية (1) -فإنه يكون عندئذٍ معتبرًا إذا كان في محلٍّ
(1) الإحكام، للآمدي، (4/ 170 - 171)، الموافقات، للشاطبي، (4/ 105 - 118)، شرح جمع الجوامع مع =
يجوز فيه الاجتهاد من كل مسألة ليس عليها دليل نصيٌّ قاطع أو إجماع صحيح منعقد؛ أما ما لم يرد فيه نصٌ ولا إجماع فهو ميدان فسيح ومجال رحبٌ للاجتهاد.
فإذا كانت المسألة اجتهادية مترددة بين النفي والإثبات، ونظر فيها المجتهد المتأهل فاستفرغ وسعه وبذل جهده، وسلك الطرائق المرعية والمناهج المرضية في الاستنباط والاستدلال والترجيح عند التعارض؛ فإن هذا الاجتهاد يكون مقبولًا معتبرًا تترتب عليه آثاره الشرعية والواقعية (1).
أدلة القاعدة:
كل دليل استدل به على مشروعية الاجتهاد من القرآن والسنة والإجماع فهو دليل لهذه القاعدة، وفيما يلي بعض أنواع الأدلة عليها:
أولًا: القرآن الكريم:
قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78، 79].
وجه الدلالة: دلَّ قوله تعالى: {إذ يحكَمَان} على أن داود وسليمان عليه السلام حكما في هذه الحادثة معًا كلٌّ منهما بحكم مخالف للآخر، ولو كان وحيًا لما ساغ الخلاف، فدل على أن الحكم الصادر من كل منهما اجتهاد، يؤيد ذلك قوله تعالى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ؛ إذ خص الله سليمان عليه السلام بتفهيمه الحكم الصحيح، ولو كان الحكم نصًّا لاشتركا في فهمه (2).
= حاشية العطار، للمحلي (2/ 421 - 425)، المستصفى، للغزالي، (ص 342 - 344)، إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1027 - 1034).
(1)
إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 279)، الموافقات، للشاطبي، (4/ 155).
(2)
انظر: مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 224)، أضواء البيان، للشنقيطي (4/ 170 - 172)، الفصول في الأصول، للجصاص، (4/ 24 - 37) فقد ذكر الكثير من الأدلة على إثبات الاجتهاد.
ثانيًا: السنة المطهرة:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"(1).
2 -
حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه المشهور، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن، قال له:"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله؛ قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "؛ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ "؛ قال:. . . فذكره. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله"(2).
وجه الدلالة:
دل الحديثان على مشروعية الاجتهاد ممن تأهل لرتبته، وقد حفلت السنة النبوية بكثير من الوقائع والحوادث التي اجتهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم (3).
ثالثًا: الإجماع:
حكى الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله (4) الإجماع على ذلك -قائلًا-: "وقد استقر أن إجماعهم حجة بما قدمنا على تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث والرجوع إلى النظر والمقاييس"(5).
(1) سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
إعلام الموقعين، لابن القيم (1/ 200 - 217)، زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 15، 1407 هـ، (3/ 394)، جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 844)، وما بعدها، الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (1/ 490 - 503).
(4)
أبو بكر، أحمد بن علي، الرازي، الجصاص، الإمام الكبير الشأن، صاحب أبي الحسن الكرخي، وله من التصانيف: أحكام القرآن، وشرح مختصر الطحاوي، وشرح الأسماء الحسنى، ولد سنة 305 هـ، وتوفي سنة 370 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 144)، الجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (1/ 220).
(5)
الفصول في الأصول، للجصاص، (4/ 53).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة". فالقول بجواز الاجتهاد هو مذهب الجماهير (1)، ومنهم من ذهب إلى أنه فرض كفاية (2).
وقد رأينا الشاطبي رحمه الله يعقد في الشروط العلمية للاجتهاد قاعدة أصولية مفيدة يقول فيها: إن الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص اشترط له العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني لزم العلم بمقاصد الشريعة (3).
وهذا يدل على أن العلم بالعربية أداة فهم النصوص ومن ثم الاستنباط (4)، وأن العلم بمقاصد الشريعة يعين على الترجيح بين المصالح والمفاسد.
ولقد قرر الشاطبي أن درجة الاجتهاد لا تحصل إلا لمن اتصف بوصفين:
1 -
فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
2 -
التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها (5).
ويستدل لمباشرة الاجتهاد في محالِّه المعتبرة بعد استيفاء شروطه المعتبرة بها هو معلوم من تناهي النصوص، وعدم تناهي الحوادث المستجدة.
وفي هذا المقام يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة؛ ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك؛ فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (20/ 203).
(2)
البحر المحيط، للزركشي، (6/ 198)، والأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 415).
(3)
الموافقات، للشاطبي، (4/ 162).
(4)
اعتبر بعض العلماء، كالشهرستاني صاحب الملل والنحل، والأستاذ عبد الوهاب خلَّاف صاحب أصول الفقه، العلم بالعربية أول شروط الاجتهاد، وفصَّل الشاطبي القول في ذلك.
(5)
الموافقات، للشاطبي، (4/ 105 - 106).
اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع للهوى، وذلك كله فساد" (1).
وقد يرتقي حكم الجواز هنا إلى الوجوب في حق المجتهدين في حالة حاجة الناس الشديدة لمعرفة حكم تلك النازلة مع ضيق وقت النظر والاجتهاد، فحينئذ يتعين على القادر من أهل الاجتهاد التصدي لهذه النازلة وأداء هذه المهمة (2).
تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات:
وهذه القاعدة بمنطوقها تقيد الناظر في مسائل ونوازل الأقليات المسلمة بشروط الاجتهاد المعتبرة في شخص المجتهد، وهي تؤكد على هذا المعنى من جهة أن كثيرًا من تلك النوازل الفقهية إنما هي وقاع مستجدة، ربما لا تسعف الفقيه فيها نصوص حاضرة، فهي إلى عمل المجتهد المطلق أقرب منها إلى عمل المجتهد المقيد، وهي إلى ما يسمى "بالاجتهاد الإنشائي" أو "الإبداعي" أقرب منها إلى ما يسمى "بالاجتهاد الانتقائي"(3).
كما تؤكد هذه القاعدة على اتباع المنهج المعتبر في الاجتهاد والاستنباط والذي يقوم على قاعدة النصوص التفصيلية أولًا ثم ينظر في المصالح والمقاصد ثانيًا، وُيعنَى بفقه الواقع وما تتميز به الأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين من خصائص وظروف دقيقة ثالثًا، وما ينبغي أن يحصل مراعاةً لفقه الأولويات وتحقيقًا لقاعدة الموازنات بين المصالح والمفاسد والإيجابيات والسلبيات والمنافع والمضار أخيرًا.
يقول الشاطبي رحمه الله: "المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع ومضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون
(1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 104).
(2)
البحر المحيط، للزركشي، (6/ 206 - 207)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 526 - 527).
(3)
هذه مصطلحات أطلقها فضيلة الدكتور: يوسف القرضاوي، في كتابه الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، (ص 141)، ووافقه عليها الدكتور عبد الله بن بيه في كتابه، صناعة الفتوى، (ص 170)، وغيره من الباحثين.
شخص أو وقت دون وقت. . . فكثير من المنافع تكون ضررًا على قوم لا منافع، أو تكون ضررًا في وقت أو حال، ولا تكون ضررًا في آخر" (1).
وهذه القاعدة على هذا النحو تؤصل لفقه نوازل الأقليات المسلمة في غير بلاد المسلمين انطلاقًا من النصوص التفصيلية الجزئية، ومن قواعد الاستنباط الأصولية، وفي محالِّ الاجتهاد المعتبرة مع رعاية الضرورات والحاجات وخصوصيات الأقليات.
وهذا المنحى يمثل جماهير علماء المسلمين في مجامعهم الفقهية وهيئاتهم العلمية الموجودة في الغرب، كالمجلس الأوروبي للإفتاء، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، وسائر المجامع الفقهية في بلاد المسلمين.
كما أن القاعدة ترد بمفهومها على منحى آخر يخالف هذا المنحى قد بدا وظهر ليقدم حلولًا عملية لمشكلات واقعية لا يعتني بالاجتهاد الأصولي المعتبر، ولا يطلب تحقيق شروطه، وإنما هو يستأنس بروح الشرع وعمومياته، ولا يستنبط الأحكام وفق علم أصول الفقه وآلياته، ولا ينظر كثيرًا إلى الأدلة التفصيلية ولا يُعَوِّلُ عليها!!
وعند الخوض في فقه الأقليات يعتبر أن هذا الفقه ليس فقهًا فروعيًّا وإنما هو فقه أصولي كلي يشتمل على عقائد وأخلاق ومبادئ وقيم لا مجرد أحكام!
وهو اتجاه يستفز إلى تجديد لا في الفقه فحسب! بل في أصول الفقه أيضًا!!
ويبرز في التنظير لهذا الاتجاه، د. طه جابر العلواني وهو رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في فيرجينيا بأمريكا، ورئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا أيضًا، حيث يقول:"لا يمكن إدراج "فقه الأقليات" في مدلول "الفقه" كما هو شائع الآن -أي: فقه الفروع- بل الأولى
(1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 39 - 40).
إدراجه ضمن "الفقه" بالمعنى العام الذي يشمل كل جوانب الشرع اعتقادًا وعملًا، بالمعنى الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"(1).
أو الفقه الاكبر كما دعاه الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وأطلقه على الكتاب المنسوب إليه؛ لذلك رأينا ضرورة ربطه بالفقه الأكبر وضعًا للجزء في إطار الكل، وتجاوزًا للفراغ التشريعي أو الفقهي" (2).
وبدرجة ما ينضم د. جمال الدين عطية إلى هذا الاتجاه (3)، ود. جمال الدين كان مستشارًا أكاديميًّا للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومديرًا لمكتبه بالقاهرة في الفترة من 1987 م - 1992 م، وأمينًا عامًّا للموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية في الفترة من 1969 م - 1971 م، وهو الآن مدير لمشروع معلمة القواعد الفقهية التابع للمجمع الفقهي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي.
ويبدو هذا المنحى مباينًا ومزايلًا لمنحى الجماهير سلفًا وخلفًا، فما رأينا منذ محمد بن الحسن الشيباني في كتابيه السير الكبير والصغير من دعا إلى هذا، وإن "الاجتهاد الانتقائي" الذي يتحدث عنه، فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي بقوله:"ينتقي من القديم في ضوء الأصول والاعتبارات الشرعية"، و"الاجتهاد الإبداعي"، والذي يواجه ما امتلأت به الحياة المعاصرة من ألوف المسائل الجديدة التي لا يمكن أن تجد لها جوابًا مباشرًا في تراثنا الفقهي العظيم، هذا الاجتهاد الإبداعي وسابقه الانتقائي يراعيان الاستناد إلى القواعد الفقهية الأصولية التي أصَّلها العلماء وحررها الفقهاء، وهي كثيرة وفيرة، وقد ذكر منها الدكتور القرضاوي نفسه نحو أربعين قاعدة (4).
(1) سبق تخريجه.
(2)
في فقه الأقليات المسلمة، د. طه جابر العلواني، دار نهضة مصر القاهرة، ط 1، (2000 م)، (ص 5).
(3)
يراجع: نحو فقه جديد للأقليات، د. جمال الدين عطية، (ص 62 - 64).
(4)
في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 40 - 44).
ويؤكد على هذا المعنى، فضيلة الدكتور عبد المجيد النجار الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء وهو يتحدث عن تأسيس قواعد تأصيلية لفقه الأقليات المسلمة فيقول:"لا يقصد منه تأسيس اختراعي لقواعد جديدة تستحدث به استحداثًا بعد أن لم تكن موجودة في المدونة التراثية لعلم أصول الفقه بفروعه المختلفة، بقدر ما يقصد منه تأسيس يستثمر فيه ما جاء في تلك المدونة من ثراء في قواعدها وضوابطها، لتستخلص جملة منها تؤلف في بناء جديد، وتوجه توجيهًا جديدًا، بحيث يتكون منها منهج أصولي متكامل يؤصل لفقه الأقليات"(1).
ومن قراءة ما يقدمه د. النجار يتضح أنه لا يدخل في قواعد فهم النص واستنباط فقه جديد بقدر ما يدخل في قواعد تطبيق النص والإفتاء به، فهي قواعد حركية لحل إشكالات أكثر منها قواعد نظرية، وهي قواعد إفتاء أكثر منها قواعد استنباط أحكام (2).
إن ما يقدمه د. طه العلواني تحت عنوان: (نحو بناء أصول لفقه الأقليات)، يعد ثورة وانقلابًا في علم الأصول والقواعد الفقهية! فبالرغم من استدراك فضيلته المبدئي بعدم تجاهل أدلة الفقه ولا شروط الاستنباط منها. . . إلا أنه يعود في صفحات عدة ليطرح منهجًا جديدًا تمام الجِدَّة على الفقه الموروث في أصول الاجتهاد وبناء الأحكام التكليفية وتفريعها، لتقويم الفعل الإنساني وإعطائه الوصف اللائم له من كونه "ينبغي أن يفعل" أو "لا ينبغي أن يفعل" ونحو ذلك.
ويمكن أن نختصر أصول العلواني الفقهية الجديدة في الجمع بين القراءتين، ثم حاكمية القرآن على السنة، والطبيعة المبينة فقط (غير الإنشائية للحكم) بالنسبة للسنة
(1) مجلة المجمع الأوروبي للإفتاء والبحوث، ربيع الثاني (1424 هـ)، العدد 3، (ص 55 - 56).
(2)
فقه الأقليات المسلمة بين فقه الاندماج (المواطنة) وفقه العزلة د. نادية محمود مصطفى، المجلة العلمية للمجلس الأوربي للإفتاء، العدد 10 - 11، الجزء الثاني مايو (2007 م)، (ص 151).
النبوية، وتراجع معنى الحجية في الإجماع والقياس إلى مستوى الوسائل المنهجية أو دوائر الفهم، والفهم بالعموميات من المبادئ الأساسية والقيم الحاكمة والمقاصد العليا والقواعد الكلية لا بالنصوص الجزئية، والمنطق القرآني الكامن في القرآن الذي يقدر الإنسان على كشفه ليشكل قوانين تعصم "العقل الموضوعي" من الشذوذ والخطأ، ويمكن أن توجد قاعدة مشتركة للتفكير بين البشر (هكذا كل البشر!)، ثم اعتبار عالمية الخطاب القرآني، التي يواجه بها الحالة العالمية الراهنة بوصفه كتابًا يقوم على "قواعد إنسانية وقيم مشتركة".
(هذا الاتجاه) لا يمثل تجديدًا عاديًّا، بل تجديدًا جذريًّا، يوشك أن يكون تدميريًّا؛ أهم مآلاته:
1 -
أنه لا ينبغي الرجوع إلى أعيان الأدلة التفصيلية (الآيات القرآنية والأحاديث النبوية) بقدر ضرورة العودة إلى أجناسها بفهم عام غير تفصيلي!
2 -
إحلال القيم والمقاصد والمبادئ والقواعد العامة محل الدلالات الخاصة للأدلة التفصيلية؛ بدلًا من أن تأتي الأولى في مقام المعضدات والضوابط للثانية!
3 -
إنشاء قواعد جديدة للترجيح بين الدلالات وفقًا لرؤى جديدة!
4 -
إلقاء غشاوة ثقيلة على الحديث وعلومه، وعلى الفقه وأصوله بذريعة النسبية في مقابل الإطلاق القرآني وحده، بل إن السنة نفسها بجملتها أدرجت في عالم النسبي "الزمكاني" باعتبارها كما يقول فضيلة الدكتور العلواني بيانًا للقرآن وتنزيلاً لقيمه في واقع نسبي محدد.
5 -
فتح المجال أمام أهل الرأي والفكر المجرد من السند الشرعي التفصيلي؛ لكي يتكلموا بكلام الفقهاء في أفعال المكلفين بما ينبغي فعله وما لا ينبغي، على حد تعبير الدكتور العلواني!
وثمة إشكال تأصيلي آخر يظهر في النموذج الأخير -وهو الدكتور جمال الدين عطية-، فبالإضافة إلى اعتماد أفكار المدرسة الإنسانية في النظرة إلى ما يسمى اليوم بـ "الآخَر" من "وحدة الأصل الإنساني" و"كرامة الإنسان، مطلق الإنسان" و"وحدة الدين"؛ أي: العقيدة، "وسنة التنوع"، ورفض الإسلام لكل أنواع التمييز حتى التمييز بسبب الدين! ومفاهيم المواطنة والولاء الاجتماعي. . . إلخ، ثم اعتماد أفكار نفس المدرسة في "العلاقة مع الآخر" لا سيما المساواة والحريات، والموضوعية وعدم التحيز، إلا أننا لا نركز في مسألة التأصيل إلا على القضية الأخطر، وهي قضية المرجعية فإذا كان بحث الدكتور العلواني يخلي الطريق في التعامل مع النص من زخم القواعد اللغوية وقواعد علوم الدلالة وما إلى ذلك، ليحلِّيها بقواعد فكرية استنبطها فضيلته من قراءته الخاصة للدين ومصادره لا سيما القرآن الكريم؛ فإن الدكتور جمال الدين عطية بعد أن يستعرض تعريفًا وصورًا لواقع الأقليات، ينتقل مباشرة إلى ما سماه المرجعية الدولية التي يجعلها مع المرجعية الشرعية في حزمة المرجعية المطلقة! ورغم أنها أعراف ومنتجات بشرية إلا أنه يجعلها في نفس رتبة الكتابات الفقهية الشرعية، فيقول:"وبالذات الكتابات الفقهية ما هي إلا اجتهادات بشرية ليس لها إلزام شرعي، فضلًا عن أن هذه الاجتهادات كانت استجابة لظروف زمانية ومكانية مختلفة عن ظروفنا الحالية، وإننا بحاجة إلى اجتهادات جديدة تراعي ظروفنا وتعالج مستجدات الأمور"(1).
واستدراك الدكتور جمال على ذلك، ورغم عرضه لما سماه "المرجعية الشرعية" بصورة اجتهاد منه في تأصيل النظرة، ثم العلاقة مع الآخر، إلا أنه يخلص في مبحثه الأخير (الثامن) إلى أنه قد اتضح من الدراسة الحالية أنه: لا تعارض بين الاتجاه الدولي
(1) نحو فقه جديد للأقليات، د. جمال الدين عطية، (ص 62).