الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثالثة: التوبة النصوح تجب ما قبلها:
هذه القاعدة كالمتممة للقاعدة السابقة، فالسابقة كانت في التوبة من الكفر والشرك، فهي في توبة الكفار، وهذه القاعدة في التوبة من جميع الذنوب والمعاصي فهي في توبة المسلمين.
المعنى العام للقاعدة:
التوبة -لغةً-: مصدر تاب يتوب، وهي تدل على الرجوع فيقال: توبة ومتابًا، والتوب: ترك الذنب على أجمل الوجوه، والمتاب:. التوبة التامة، وهي الجمع بين ترك القبيح وتحري الجميل (1).
وهي -اصطلاحًا-: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدراكه من الأعمال بالإعادة (2).
أو هي: الرجوع إلى الله بحَلِّ عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكل حقوق الرب.
أو هي: الندم على معصيته من حيث هي معصية، مع عزمٍ ألَّا يعود إليها إذا قدر عليها (3).
وأما التوبة النصوح فهي توثيق العزم على ألَّا يعود لمثله، وقيل: هي ألَّا يبقي التائب على عمله أثرًا من المعصية سرًّا وجهرًا (4).
وعلامتها أن يكره العبد المعصية ويستقبحها، فلا تخطر له على بالٍ ولا تَرِدُ في خاطره أصلاً (5).
والتوبة النصوح هي ما تضمن ثلاثة اشياء:
(1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (1/ 357)، لسان العرب، لابن منظور، (2/ 61).
(2)
المفردات، للراغب، الأصبهاني، (ص 76).
(3)
التعريفات، للجرجاني، (ص 95)، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، لمحمد علي التهانوي، تحقيق: د. علي دحروج، مكتبة لبنان، بيروت، ط 1، 1996 م، (1/ 524 - 525).
(4)
التعريفات، للجرجاني، (ص 96).
(5)
كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، (1/ 524 - 525).
"الأول: تعميم الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبًا إلا تناولته.
الثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها؛ بحيث لا يبقى عنده تردُّهٌ، ولا تَلَوُّمٌ ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته، وعزيمته مبادرًا بها.
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته، والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته، أو لحفظ قوته وماله، أو استدعاء حمد الناس، أو الهرب من ذمهم، أو لئلَّا يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل.
فالأول يتعلق بما يتوب منه، والأوسط يتعلق بذات التائب، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه، فنصح التوبة: الصدق فيها والإخلاص، وتعميم الذنوب بها، ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب، وهي أكمل ما يكون من التوبة" (1).
وشروط التوبة النصوح: أن يترك المعصية في الحال، وأن يقصد تركها في الاستقبال، وأن يندم على فعلها في الماضي (2).
فإن تعلقت المعصية بحقِّ آدميٍّ استبرأ منه، وطلب أن يحلَّه بعد أن يعيد إليه حقَّه (3) ومن العلماء من يضيف حصولها في الوقت الذي حدده الشارع، وهو ما قبل الغرغرة (4).
ومقصود هذه القاعدة أن من تاب إلى الله توبة خالصة صحيحة فإن الله تعالى يتجاوز له عما فرط من الذنوب، ويستر عليه ما سلف من العيوب، ويبدل الله سيئاته حسنات.
(1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1393 هـ - 1973 م، (1/ 310 - 312).
(2)
كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، (1/ 524 - 525).
(3)
رياض الصالحين، لمحيي الدين يحيى بن شرف النووي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1399 هـ - 1979 م، (ص 11).
(4)
الإرشاد إلى قواطع الأدلة، للجويني، (ص 401).
قال ابن القيم رحمه الله: "التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله؛ فإن الله يحب التوابين يحب المتطهرين، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه؛ فإذًا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان، وتتناول جميع المقامات؛ ولهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته كما تقدم، وهي الغاية التي وُجد لأجلها الخلق والأمر، والتوحيد جزء منها، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها، وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها، فضلًا عن القيام بها علمًا وعملًا وحالًا، ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين إلا وهم خواصُّ الخلق لديه، ولولا أن التوبة اسمٌ جامعٌ لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرحَ العظيم، فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيلها وآثارها"(1).
فالتوبة واجبة من جميع الذنوب وجوبًا عينيًّا وعلى الفور، سواء أكانت الذنوب من الصغائر، أم من الكبائر.
قال النووي رحمه الله: "واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة، أو كبيرة"(2)، وقال ابن تيمية رحمه الله:"فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال"(3).
وقد دل على وجوبها قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
(1) مدارج السالكين، لابن القيم، (1/ 306 - 307).
(2)
شرح صحيح مسلم، للنووي، (17/ 59).
(3)
مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (10/ 330).