الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه" (1).
ويقول الشيخ محمد الخضر حسين، شيخ الجامع الأزهر رحمه الله:"فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين"(2).
وإن ما ينعق به خصوم الشريعة دعواهم جمودها، وعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات العصر، وضعف استجابتها لمتغيراته، ولقد علم المسلمون أن وفاء الشريعة بمصالح العباد ضرورة عقدية، وبدهية إيمانية، ومسألة واقعية، والقول بغير هذا طعن فيمن شرعها سبحانه وتعالى، واجتراء على من بلَّغها صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك إثمًا مبينًا.
ومعلوم أنه لا يتأتى لأي تشريع كان إلهيًّا أو وضعيًّا أن يبقى معمولًا به نافذ القول؛ إلا بالاجتهاد الذي تمليه ضرورات الواقع وتطورات الحياة.
وعلى هذا فإن درس النوازل وبحثها، واستنباط أحكامها يقطع ذريعة دهاقنة القوانين الوضعية، ويغلق باب الاجتراء على مقام الشريعة، ويقيم البرهان بصورة عملية على حيوية الفقه الإسلامي وتجدد عطائه في جميع العصور، ولا شك أن في هذا العمل إلزامًا للحجة، وقطعًا للدعاوي، وتفويتًا للفرصة التي ينتهزها العلمانيون للنيل من الشريعة الإسلامية الغراء.
المطلب الثاني: ثمرته بالنسبة للمجتمع الإسلامي:
تقوية الأمة وتعميق الإيمان:
تعاني مجتمعاتنا الإسلامية اليوم من حالة من الهزيمة النفسية، ويتعرض كثير من أبناء الأمة لحملات تشكيك منظمة، تهز كيانهم الفكري والثقافي، عِلاوة على انبهار بحضارة مادية زائفة، وتبعية شبه مطلقة، حتى بات الكثير من أبناء الأمة يتحرج ويجد غضاضة في نفسه من تطبيق تعاليم دينه أو إظهار شعائر عبادته وعبوديته لله تعالى.
(1) عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، للشيخ أحمد محمد شاكر، دار الوفاء، المنصورة، ط 2، 1426 هـ - 2005 م، (1/ 697).
(2)
تحكيم الشريعة ودعاوى الخصوم، د. صلاح الصاوي، دار الإعلام، ط 1، 1414 هـ - 1994 م، (ص 13).
ولا شك أن العناية بمتغيرات العصر، وملاحقة تطوراته، وإبداء الرأي الشرعي في حديث مخترعاته، وجديد تقنياته -لمما يسهم في إعادة الثقة إلى نفوس متذبذبة، وتقوية الإيمان في قلوب ضعيفة، وزيادة للإيمان في قلوب واثقة.
إن الجامعات الإسلامية، ومراكز البحوث، والمجامع الفقهية، ودور الإفتاء في العالم الإسلامي رصيد هائل، وطاقة ضخمة، وهي تملك من البحوث والدراسات العلمية الجادة في مختلف المجالات، والكفاءات النادرة المتخصصة في الجوانب الشرعية والواقعية كافة، فجميع هذه المؤسسات مدعوة إلى العناية بقضايا النوازل، وإصدار بحوثها حولها؛ ومن ثم الإسهام بشكل مباشر في تقوية المجتمع المسلم من خلال العناية بنوازله المعاصرة، وهذه معاصَرة مطلوبة في كل ميدان، فلا يخلو باب من أبواب الفقه غالبًا إلا ومنه مسائل تحتاج إلى اجتهاد أو تجديد لا يكاد المتأمل يستثني من تلك الأبواب بابًا، كالطهارة (1) مثلًا أو الصلاة (2)، أو الإرث (3) وغير ذلك.
وعليه فلا يستغني مجتمع قوي، ولا أمة مرهوبة، تنبع إرادتها من ذاتها عن التجديد والاجتهاد في كل ميدان، ويلاحظ بشكل جلي أن الفترة الذهبية للأمة الإسلامية، والازدهار الحضاري المتنامي في سالف عهدها كان متواكبًا معه ذلك الإنتاج الفقهي الثري، والذي قدمه الأئمة المجتهدون، تأصيلًا وتطبيقًا.
ويمكن القول بأن فقه النوازل لا يزدهر إلا في المجتمعات المتحضرة، حيث تزداد قيمة العمل، ولا يخشى أحد من إبداء الرأي، ومن جهة أخرى فإن تلك المجتمعات تشهد غالبًا تحولات اجتماعية كبيرة من شأنها أن توجِد نوازل جديدة في مجالات الحياة
(1) من النوازل فيها: تطهير الثياب المتنجسة بالغسيل الجاف، أو ما يسمى بـ Dry Clean.
(2)
من النوازل فيها: أوقات الصلاة في القطبين، وفي المركبات الفضائية.
(3)
من النوازل فيها: بم يحكم في إرث الحمل، إذا أفادت الأشعة التلفزيونية بعدده أو جنسه.
كالتجارة والصناعة وفي الأعراف الاجتماعية والتقاليد.
ولعل الاجتهاد في العصر الحاضر ألزم من عصور مضت؛ وذلك لكثرة النوازل، وتعقُّد المسائل، وتطور الحياة بشكل سريع، وللبعد عن أجواء الانضباط بالشريعة، وقيام تحدي الأنظمة الوضعية.
سد حاجة المسلمين لمعرفة حكم الله في النوازل:
إن عناية الفقيه المجتهد مصروفة بلا شك إلى إدراك الحكم الشرعي لأفعال المكلفين، سواء تعلقت هذه الأفعال بعبادات محضة كالصلاة والحج، أم تعلقت بالعقود والمعاوضات أو النكاح والطلاق، أو ما له تعلُّق بالسياسة الشرعية والقضاء.
فمن الطبيعي إذن أن يلجأ المسلمون إلى علمائهم المفتين لاستجلاء أحكام الدين في كل ما يتعلق بالحياة وأفعال الأحياء، وهذه الأحكام قد تختلف باختلاف القيم الاجتماعية السائدة والأعراف، وفقيه النوازل يحتاج إلى إدراك هذه المتغيرات جميعًا، حتى يكون لسان صدق يعبر عن قدرة الفقه الإسلامي على مواكبة هذه المتغيرات في الحياة الاجتماعية، فمجتمعات الحضارة المتقدمة، تختلف -ولا بد- عن مجتمعات البداوة، وهو مطالب بأن يراعي ظروف الزمان والمكان في كل حال.
وأما تلك النوازل من كل وجه، والمستجدة مطلقًا، فليس للمسلمين بد من أن يفيئوا إلى فقهاء النوازل المجتهدين ليصدروا عن قولهم ويأخذوا بحكمهم؛ استجابة لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وكثير من أبناء المسلمين تشتد حاجتهم اليوم -وهم يدرسون في تخصصات علمية متعددة، كالطب والهندسة والاقتصاد والسياسة والزراعة وغير ذلك- إلى بيان أحكام ما نزل واستجد مما له تعلق بدراستهم من جهة، وواقع الحياة من جهة أخرى؛ وفي هذا عصمة لهم من التناقض أو الانفصام بين العلم الشرعي والتجريبي.