الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم القصر في الصلاة حال السفر صدقة من الله تعالى، فقال:"صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته"(1).
ولا شك أن الإجماع منعقد في الجملة على ثبوت أصل الترخص بالرخص الشرعية الثابتة والمنصوصة.
تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات:
لا شك في أن حياة الأقليات المسلمة في عالم اليوم محفوفة بضرورات وحاجات، وتكتنفها صعوبات ومشقات، وتَبَنِّي منهج التيسير المنضبط متفق مع روح الدين، والأخذ بالرخص من شأنه أن يفتح بابًا للالتزام بأحكام الشرع والمحافظة عليها.
وقد قال سفيان الثوري رحمه الله: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، فأمَّا التشديد فيحسنه كل أحد"(2).
وقد كان الفقهاء المحققون يرجحون بين الأحكام بما هو أرفق وأصلح للناس معًا؛ ذلك أن الاعتراف بحاجات الناس وتقديرها منهج شرعي دلَّ عليه ما اتفق الفقهاء عليه من رعاية الضرورات، وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة، ومن أجل هذا أجازت الشريعة المطهرة الإجارة والسَّلَم، وهما بيعُ معدومٍ، وأباحت الجعالة مع ما فيها من جهالة، وبيع العرايا مع ما يقع فيه من ربا الفضل، واعتبرت حاجات خاصة كلبس حرير لمن به حكة جلدية، أو عند الاقتتال،
= مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1399 هـ / 1979 م، (1/ 469) - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وصححه ابن حبان (2/ 69). ورُوي أيضًا من حديث: ابن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
(1)
أخرجه: مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، (686)، من حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، فقد أمن الناس! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة. . . " فذكره.
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية، (6/ 367)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، (1/ 784).
وأجازت التبختر بين الصفين في أثناء الجهاد، ونحو ذلك.
وعليه فإذا وُجد بعض الأقليات في أماكن يقصر فيها الوقت كثيرًا، أو يطول الوقت فيها طويلًا بما يوقعهم في حرج من جهة أداء الصلاة على وقتها، أو قامت ببعضهم حاجات شديدة وأعذار غالبة تحول بينهم وبين أداء الصلاة على وقتها، لا سيما مع عدم تمكنهم في بلادهم التي يعيشون فيها كأقليات، أو كانت تطرأ لهم أعذار في أوقات معينة تغلبهم عن أدائها في أوقاتها الشرعية، فلا بأس عند ذلك من إباحة الجمع للعذر والحاجة، كان لم يكن سفر، ولا خوف، ولا مطر، وقد ثبت حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا في غير خوف ولا سفر"، وفي رواية:"جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف ولا مطر"، قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يُحرج أمته، وفي رواية عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة؟ لا أمَّ لك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدَّق مقالته (1).
قال ابن حجر: "وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث،
فجوَّزوا الجَمْعَ في الحضر للحاجة مطلقًا، لكن بشرط ألا يُتخذ عادة، وممن قال
(1) أخرجه: مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، (705).
به: ابن سيرين (1)، وربيعة، وأشهب (2)، وابن المنذر (3)، والقفال الكبير، وحكاه الخطابي (4) عن جماعة من أهل الحديث" (5).
ومما قد يضرب مثلًا تطبيقيًّا ما قد يسأل عنه في صلاة الجمعة وجوازها قبل الزوال لحاجة تتعلق بضيق الوقت حيث يقصر النهار في بعض البلاد القريبة من القطب، ولا سيما في الشتاء، ومنهم من لا يجد فرصة بسبب دراسته أو عمله إلا في وقت مبكر قبل الزوال.
وقد ذهب الحنابلة إلى جوازها قبيل الزوال بيسير قال الخرقي (6): "وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم".
(1) أبو بكر، محمد بن سيرين، الإمام، شيخ الإسلام، أبو بكر الأنصاري، البصري، مولى أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ثقة مأمونًا عاليًا رفيعًا فقيهًا إمامًا كثيرَ العلم ورعًا، سمع أبا هريرة، وعمران بن حصين، وابن عباس، وروى عنه قتادة، وأيوب، ويونس بن عبيد، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وتوفي سنة 110 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 193)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 606).
(2)
أبو عمرو، أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم، الإمام العلامة، مفتي مصر، القيسي، العامري، المصري، الفقيه، يقال: اسمه مسكين، وأشهب لقب له، سمع مالك بن أنس، والليث بن سعد، وحدث عنه الحارث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى، ولد سنة 140 هـ، وتوفي سنة 204 هـ. ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (3/ 262)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (9/ 500).
(3)
أبو بكر، محمد بن إبراهيم ابن المنذر النيسابوري، الفقيه، الإمام الحافظ العلامة، شيخ الإسلام، من مصنفاته: الإشراف في اختلاف العلماء، والإجماع، والأوسط، توفي سنة 318 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 108)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (14/ 490).
(4)
أبو سليمان، حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب، البستي، الخطابي، صاحب التصانيف، الإمام العلامة، الحافظ اللغوي، من مصنفاته: معالم السنن وهو شرح سنن أبي داود، وغريب الحديث، وشرح الأسماء الحسنى، وكتاب العزلة، ولد سنة بضع عشرة وثلاث مئة، توفي سنة 388 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (17/ 23)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (3/ 282).
(5)
فتح الباري، لابن حجر، (2/ 24).
(6)
أبو القاسم، عمر بن الحسين بن عبد الله، البغدادي، الخرقي العلامة شيخ الحنابلة، صاحب المختصر المشهور في مذهب الإمام أحمد، كان من كبار العلماء، له مصنفات كثيرة في المذهب لم ينتشر منها إلا المختصر في الفقه، توفي سنة 334 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (3/ 147)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (15/ 363).
قال ابن قدامة: "وفي بعض النسخ في الساعة الخامسة، والصحيح في الساعة السادسة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز صلاتها فيما قبل السادسة، وروي عن ابن سعد وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال"(1).
وقال ابن قدامة: "ولنا على جوازها في السادسة السنة والإجماع، أما السنة فما روى جابر ابن عبد الله رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي -يعني: الجمعة- ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس (2)، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) قال ابن قيتبة: "لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال" وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه، وفي رواية لمسلم: "فنرجع وما نجد للحيطان فيأً نستظل به" (4).
وأما الإجماع فروى الإمام ابن أبي شيبة عن وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدنا مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدنا مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره (5)، قال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد
(1) المغني، لابن قدامة، (3/ 239).
(2)
أخرجه: مسلم، كتاب الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، (858).
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب الجمعة، باب: قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، (939)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، (859) -واللفظ له-.
(4)
أخرجه: البخاري، كتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية، (4168)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، (860).
(5)
أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب الصلاة، باب: مَن كره إذا حضرت الجمعة أن يخرج حتى =