الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
ثمرة دراسة فقه النوازل وأهميته
إن كل فائدة ترجى وكل ثمرة تجنى من دراسة الشريعة والفقه الإسلامي هي ثابتة كذلك لدى دراسة فقه النوازل، وتتبدى تلك الغايات الجليلة من جهات عديدة، وحيثيات متنوعة؛ إلا أنها تعود وترجع إلى جوانب ثلاثة، هي:
أولًا: ثمرته بالنسبة للشريعة والفقه الإسلامي.
ثانيًا: ثمرته بالنسبة للمجتمع الإسلامي.
ثالثًا: ثمرته بالنسبة للفقيه والمجتهد.
وفيما يلي تفصيل لهذه الجهات وبيان لتلك الثمرات:
المطلب الأول: ثمرته بالنسبة للشريعة والفقه الإسلامي:
تجديد الأدلة وتنويعها على إعجاز الشريعة:
مع تناهي الأدلة وتعاقب النوازل، وتجدد الحوادث؛ فإن الشريعة التي تفرض الاجتهاد، لا ينضب معين الأحكام فيها على مر العصور، وكر الدهور، وما ذاك إلا لأنها وحي يوحى، قال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، وفي الحديث:"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"(1).
(1) أخرجه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: كيف نزول الوحي وأول ما نزل، (4981)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نيينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، (152)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
إن الشريعة التي قطب رحاها يدور على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها -في كل زمان ومكان- هي شريعة معجزة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وإذا كان بعض الفقهاء قد قال: إن الشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم (1)، فإن منهم من قال بحق: إن الشريعة كلها مصالح، إما درء مفاسد أو جلب مصالح (2).
إن طرفًا من إعجاز هذه الشريعة ينبع من صلاحيتها لكل زمان ومكان وإنسان، ولا تكون كذلك حتى تكون مبنية على اليسر ورفع الحرج، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وطرف آخر من إعجازها ينشأ من شمولها لجميع مناحي الحياة، فلا تترك شاذة ولا فاذة من أعمال المكلفين إلا وضبطتها بما يحقق منفعتهم، ويلائم فطرتهم، ويناسب واقعهم، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
ذلك أنها شريعة الله للإنسان، قال سبحانه:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، ثم إن هذه الشريعة على شموليتها وسعة جوانبها وتعدد عطائها في كل ميدان، لا تتعارض أجزاؤها، ولا تتضارب أحكامها، ولا تتنافر مبادؤها؛ فهي التناسق والتكامل والتوازن، والإحكام في الأحكام، وكما أن الكون على اتساعه وتنوع ممالكه ودوران أفلاكه ينتظم ولا يضطرب، فكذا هذه الشريعة في تناسق أحكامها واستقرار بنائها.
(1) الموافقات، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، ومعه تعليقات الشيخ عبد الله دراز، عناية: محمد عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، (2/ 6).
(2)
قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق: د. نزيه حماد، د. عثمان ضميرية، دار القلم، دمشق، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (1/ 14).
ودرس النوازل المستجدة وتقرير أحكامها في كل زمان ومكان، بما يحقق مصلحة الإنسان، هو برهان ساطع متجدد على إعجاز التشريع.
يقول الرافعي: "وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة وتعاوروه من كل ناحية، وأخلقوا جوانبه بحثًا وتفتيشًا، ثم هو بعدُ لا يزال عندهم على ذلك خلقًا جديدًا ومرامًا بعيدًا وصعبًا شديدًا"(1).
ومن أوضح صور الإعجاز التشريعي أنه لا تنزل نازلة ولا تجدُّ حادثة إلا ولها حكم يُلتمس في نصوص هذه الشريعة مباشرة، أو تُلحق الحادثة بنظيرتها إلحاقًا، أو تندرج تحت قاعدة فقهية كلية، أو يدرك حكمها بالنظر إلى قانون المصالح وقواعد الاستصلاح، وغير ذلك من موارد الأدلة في الشريعة الإسلامية، ولا يوفق لإقامة هذا البرهان، وإظهار هذا البيان؛ إلا متضلِّعٌ من علوم الشريعة ريَّان.
وهذا ما أشار إليه الإمام الجويني (2) بقوله: "فلو قال قائلٌ: ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له، ومآخذ الأحكام متناهية، فكيف يشتمل ما يتناهى على ما لا يتناهى، وهذا إعضال لا يبوء بحمله إلا موفق ريَّانٌ من علوم الشريعة"(3).
وهذا الإعجاز التشريعي إنما يظهر ويثبت عن طريق الفقه الإسلامي، الذي حقيقته عمل الفقهاء المجتهدين في نصوص الوحيين، إدراكًا للعلل والحكم، واستنباطًا للأحكام، وتخريجًا عليها، ومراعاة للمصالح والأعراف والعادات.
(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، لمصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1425 هـ - 2005 م، (ص 98).
(2)
أبو المعالي، ضياء الدين، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، الجويني الشافعي، إمام الحرمين الأصولي المتكلم، الفقيه أحد الأئمة الأعلام، من تصانيفه: نهاية المطلب، والبرهان في الأصول، ولد سنة 419 هـ، وتوفي سنة 478 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 468)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (5/ 165).
(3)
غياث الأمم في التياث الظلم، للإمام أبي المعالي الجويني، تحقيق: د. مصطفى حلمي ود. فؤاد عبد المنعم، دار الدعوة، الإسكندرية، (ص 312).
وإن التصدي اليوم للنوازل الفقهية في مجالات الحياة كافة، وتكييفها تكييفًا فقهيًّا صحيحًا، واستنباط أحكامها لمما يجدد الأدلة على حيوية الفقه الإسلامي الأصيل، ويؤكد على صلاحيته لمواكبة التطورات، والتصدي للمستجدات، ويبرهن مجددًا على أن الشريعة الإسلامية هي شريعة الخلود (1).
ومن ناحية أخرى فإنه يسهم بشكل ظاهر في كشف عدم موضوعية ما يسمى بالصراع بين الأصالة والمعاصرة في الفقه الإسلامي! فيثبت وجوب اتباع النهج الفقهي الأصيل، ورفض الجمود والتقليد، والتعامل مع المستجدات الفقهية على هذا الأساس.
على أن من أرباب المذاهب الفقهية من المعاصرين من تمهر بفقه إمامه، واطلع على أصوله، ووقف على كلام أصحابه، فإذا أفتى في تلك النوازل تخريجًا على نصوص إمامه أو كلام أصحابه فإن في هذا فائدة جديدة لهذه المذاهب التليدة.
قطع طريق الاعتماد على القوانين الوضعية:
إن النازلة الأخطر والبلاء الأكبر، هو ما حل بديار المسلمين من استبدال الشرع المطهر، وتنحية ما نزل به الروح الأمين على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين.
يقول محدِّث ديار مصر القاضي الشرعي الشيخ أحمد شاكر (2) رحمه الله: "إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام -كائنًا من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو
(1) الاجتهاد الفقهي الحديث، بحث د. وهبة الزحيلي، منشور ضمن كتاب الاجتهاد الفقهي أي دور وأي جديد، تنسيق محمد الروكي، نشر كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 53، ط 1، 1996 م، (ص 25)، فقه المستجدات في العبادات، طاهر الصديقي، (ص 14).
(2)
أبو الأشبال، أحمد بن محمد بن شاكر بن أحمد بن عبد القادر، محدث الديار المصرية، والقاضي الشرعي بها، الفقيه المفسر الأديب، من آل أبي علباء، يرفع نسبه إلى الحسين بن علي رضي الله عنه، من آثاره: نظام الطلاق في الإسلام، الشرع واللغة، الباعث الحثيث، توفي سنة 1377 هـ. الأعلام، للزركلي، (1/ 253)، ومعجم المؤلفين، لعمر كحالة، (13/ 368).