الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للشرع المحكم، ولا تغيير للشريعة الثابتة، بل هو خاصية في الشريعة نفسها تكسبها صفة البقاء والخلود وتزيدها ثباتًا وإحكامًا بقدرتها على تلبية كل متغير في حياة الناس.
فشريعة الله حاكمة لا محكومة وكل من يحاول إخضاعها ويئوِّل نصوصها ليذللها لأحكام الزمان والمكان والأقوام من غير طرائق التأويل المستقيم، إنما يجعل شرع الله هزوًا، وينزل به من عليائه، ويجعله خاضعًا لأهواء الناس، وهو بذلك يظلم نفسه، قبل أن يظلم دينه.
المطلب الثالث: أنواع الأحكام الشرعية من حيث الثبات والتغير:
رفض كثير من العلماء والباحثين تقسيم الأحكام الشرعية إلى ثابت ومتغير، وقالوا: إن هذا التقسيم لا وجود له، وإن صفة الثبات لازمة لكل الأحكام الشرعية، وأنكروا تغير الأحكام بتغير الأزمان، وساقوا في ذلك الأدلة التي سقناها آنفًا في ثبات الشريعة وعدم تغيرها.
من هؤلاء العلماء: ابن حزم رحمه الله الذي أنكر جواز الانتقال عن حكم بغير نص أوجب النقل عنه، مهما تبدل الزمان أو الحال، وقال: إن الدين "لازم لكل حيٍّ ولكل من يولد إلى يوم القيامة في الأرض، فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدًا في كل مكان وفي كل زمان وعلى كل حال"(1).
ومن الباحثين المعاصرين من أنكر تغير الأحكام أيضًا، وإن كان قد أقر بتغير الفتوى، وأنكر كذلك تقسيم الأحكام الشرعية إلى ثابت ومتغير (2)، ولا منازعة فيما ذهبوا إليه، بل نوافقهم الرأي، ولكن يبدو أن ما عناه العلماء بتغير الأحكام هو ذاته ما عنوه بتغير الفُتيا، وإن كنا نميل إلى تسميتها "تغير الفُتيا"؛ إذ إن التدقيق في الاصطلاح يعد أحد أسباب
(1) المرجع السابق، (5/ 5).
(2)
الثبات والشمول في الشريعة، د. عابد السفياني، (ص 448 - 541)، الحكم الشرعي بين أصالة الثبات والصلاحية، د. عبد الجليل زهير ضمرة، ثبات الأحكام الشرعية وضوابط تغير الفتوى، لمحمد شاكر الشريف، بحث على موقع "صيد الفوائد" WWW.Saaid.net.
الوقاية من الانزلاق، وأحد سبل الحماية من تلاعب المغرضين بشريعة رب العالمين.
وما استدل به على منع تغير الأحكام صحيح لا مرية فيه، ولكنه ينصرف إلى أمر آخر مغاير، حيث يستدل به على منع استبدال أحكام الشريعة بأحكام ليست منها، والتغيير في الشرع بالزيادة أو النقصان، وعلى ثبات الشريعة وعدم قبولها لرفع شيء من أحكامها أو تعطيله أو استبداله بما لم يشرعه الله تبارك وتعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما تغير الأحكام الذي عناه العلماء أمثال: الشاطبي والقرافي وابن القيم وغيرهم فليس استبدالًا لأحكام الشريعة بغيرها، ولكنه استبدال الحكم الشرعي بحكم شرعي آخر، فقد يكون الحكم هو المشروعية فينتقل إلى المنع أو العكس على اختلاف درجات المشروعية والمنع لا على سبيل النسخ والرفع والإزالة، وإنما على سبيل الانتقال والتحول، وليس في جميع الأحكام، وإنما في الأحكام الدائرة على المصالح أو العوائد والأعراف أو العلل المتغيرة.
وتقسيم بعض العلماء أحكام الشريعة إلى ثوابت ومتغيرات لا يعني انقسامها إلى أحكام ثابتة لا تقبل الاستبدال وأخرى متغيرة تقبل الاستبدال بأحكام ليست من دين الله ولا من شريعة الإسلام، وإنما المقصود هو أن في الشريعة الإسلامية أحكامًا ثابتة بنصوص الكتاب والسنة، لا تقبل التغير لثبات المصالح التي شرعت لتحصيلها، أو لكونها من الأسس التي لا تتبدل بتبدل الأزمان أو الأعراف أو العادات فهذه الأحكام لا يصح المساس بها مهما تغيرت الأزمان وتبدلت الأحوال.
كما أن في الشريعة الإسلامية أحكامًا بنيت على المصلحة التي يمكن أن تتغير بتغير الأزمان والأحوال والأعراف، فمثل هذه الأحكام موارد اجتهاد، تختلف فيها الأنظار بحسب اجتهاد المجتهدين في التماس المصلحة، وقد يتغير النظر فيها من وقت لآخر إذا تغيرت المصالح وأعراف الناس وعاداتهم، فهي تتغير لأجل ذلك، والمقصود بتغيرها أمران:
الأول: اختلاف وجهات النظر فيها، ولو في الزمان الواحد؛ لاختلاف مسالك المجتهدين في التماس المصلحة، وغير ذلك.
الثاني: اختلاف الفُتيا فيها من زمان لآخر، وتغير الفُتيا عند تغير المصالح والأعراف والعادات بتغير الأزمان، حيث ينتقل من حكم شرعي كان مناسبًا في وقت إلى حكم شرعي آخر؛ لكونه أكثر مناسبة فيما استجد من الزمان.
فالقسم الأول من أحكام الشريعة هو الذي ينبغي أن يحمل عليه قول ابن حزم فيما سبق، وكذلك قول كل من منع تغير الأحكام بتغير الأزمان؛ إذ الراجح أن أغلبهم لم يقصد تجميد أحكام الشريعة، وإنما قصد حماية الشريعة من التبديل والتحريف؛ ولذلك رأينا فضيلةَ الشيخِ بكر أبي زيد بعد ما حمل على القائلين بتغير الأحكام قال:
"والعصرانيون دخلوا من هذا التقعيد الصوري إلى أوسع الأبواب فأخضعوا النصوص ذات الدلالة القطعية كآيات الحدود في السرقة والزنا ونحوهما بإيقاف إقامة الحدود؛ لتغير الزمان، وهكذا، مما نهايته انسلاخ من الشرع تحت سرادق موهوم"(1).
وعليه فينبغي الحذر من طائفتين: إحداهما: استغلت هذه المقولة لتحقيق بغيتها في نفث سمومها والسعي في إطفاء نور الله وتحريف دينه باسم "تجديد الخطاب الديني"! والثانية: وجدت في هذه المقولة وسيلة للتوفيق بين الفكر الغربي المعاصر وبين أحكام الشريعة!
ولا شك أن القائلين بتغير الأحكام بتغير الأزمان، أو بعبارة أدق: تغير الفُتيا بتغير الأزمان والأحوال، لم يقصدوا ما قصده المنحرفون، بل لم يتركوا فرصة لاستغلال هؤلاء المغرضين، أو انزلاقهم إلى ما يريدون من التحريف والتزييف؛ حيث وضعوا الاحتياطات اللازمة، وبيَّنوا البيان الكافي، فمن ذلك أنهم قسموا الأحكام الشرعية إلى
(1) التعالم وأثره على الفكر والكتاب، ضمن المجموعة العلمية للشيخ بكر أبي زيد، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1416 هـ، (ص 72).
أحكام ثابتة لا تتغير، وأحكام أخرى تتغير بتغير الأزمان.
ففي القديم يقول ابن القيم رحمه الله: "الأحكام نوعان: نوع: لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة" (1).
وفي الحديث يقول أحد الباحثين: "لكن وصف الأحكام الشرعية بأنها تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان على عمومها غير سليم وبإطلاقها غير مستقيم، إنما الأحكام القابلة للتغيُّر، هي الأحكام التي تتغيَّر بتغيُّر العوامل، مثل: فساد الأخلاق، وهي الأحكام غير المنصوص عليها؛ لذلك لا بدَّ من التمييز في الشريعة الإسلامية ما بين القواعد العامة التي لا تقبل التغيُّر ولا التبديل، وبين التطبيقات للأحكام التفصيلية على تلك القواعد العامة؛ لأن أصول الشريعة والأحكام التعبُّدية والمقدَّرات الشرعية لا تقبل التبديل مطلقًا، كحرمة المحارم ووجوب التراضي في العقود وضمان الضرر الذي يلحقه الإنسان بغيره، وسريان إقراره على نفسه وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره، وهذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة بالمقارنة إلى نظرية العرف؛ لأن التغيرات تتحقق حسب مصالح المجتمع.
والحق أن الأحكام الشرعية التي تتبدَّل بتبدُّل الزمان المبدأ الشرعي فيها واحد، وهو إحقاق الحق وجلب المصالح ودرء المفاسد وتحقيق ما فيه نفع المجتمع الإسلامي في ضوء
(1) إغاثة اللهفان، لابن القيم، تحقيق: الشيخ محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، 1395 هـ - 1975 م، (1/ 330 - 331).
مبادئ الإسلام وقواعده العامة، وعلى هذا فإن المبدأ الشرعي باقٍ لا يتغير، وليس في النهاية تبدل الأحكام إلا بتبدل الوسائل التي يتحقق بها مراد الله في الأرض؛ وذلك لأن الأساليب لم تضبطها الشريعة ضبطَّاً كاملًا، بل بقيت مطلقة وعامة حتى يبقى للعقل البشري مجال يعمل فيه ويكون متجاوبًا مع زمانه ومع ظروفه؛ إذ ليس هو من أساسه إلا تطبيقًا لأوجه متعددة لحكم ثابت.
وأيضًا يكون الثبات في الأصول والكليات، وأما التغير ففي الفروع والجزئيات، ويكون هذا في مجال الاجتهاد، وفي نطاق النصوص المحتملة، وهو ما يؤيد القول بعدم جواز تبديل الأحكام الثابتة بالنص، مثل: أحكام العبادات؛ لأنه بالتأمل فيما نقل عن الصحابة -ولا سيما في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر- والتابعين وبعض الأئمة بتجاوز بعض الأحكام كمنع عطاء المؤلفة قلوبهم، نجد أنه ليس فيه تبديل ولا خروج على تلك النصوص، لكنهم قد قاموا بما تقتضيه حال الزمان والمكان بقدر الإمكان". (1)
ولأجل هذا المعنى اختلفت أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم على السؤال الواحد نظرًا لاختلاف السائلين، فعن عبدِ اللهِ بن عمرو بن العَاصِ قال كنَّا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجاءَ شابٌّ فقال: يا رسولَ الله أُقَبِّلُ وأنا صَائِمٌ؟ قَالَ: "لَا"، فجاءَ شيخ، فقال: أُقَبِّلُ وأنا صائمٌ؟ قال: "نعم"، قال: فنظرَ بَعضُنا إلى بعضٍ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قد علمتُ لم نظرَ بعضُكم إلى بعضٍ إنَّ الشيخَ يملِكُ نَفسَهُ"(2)، فاختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف حالهما.
(1) تغير الأحكام في الشريعة الإسلامية، د. إسماعيل كوكسال، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (ص 288 - 289).
(2)
أخرجه: أحمد، (2/ 185)، وأبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في "المعجم الكبير" -كما في "مجمع الزوائد"(3/ 166) -، قال الهيثمي:"فيه ابن لهيعة؛ وحديثه حسن، وفيه كلام" اهـ، وصححه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في "السلسلة الصحيحة"، مكتبة المعارف، الرياض، 1415 هـ، (1606).
ومثل هذا وقع حين سُئل النبي صلى الله عليه وسلم "أيُّ الأعمالِ أفْضلُ؟ "(1). فتنوعت الإجابة لتنوع حال السائلين.
كما كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن علَّم الصحابة أن الأحكام الشرعية تدور مع عللها، فقال صلى الله عليه وسلم يعلل لهم نهيه عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث:"إِنَّما نهَيتُكم مِن أجْلِ الدَّافَّةِ التي دَفَّتْ فكلُوا وادَّخروا وتصدَّقوا"(2).
وكان أيضًا من هديه صلى الله عليه وسلم النظر في مآلات الأفعال ونتائج التصرفات، وقد قال لعائشة رضي الله عنها:"ولولا أنَّ قومكِ حديثٌ عهدهم بِالجاهليةِ فأخافُ أنْ تُنكِرَ قلُوبُهم أنْ أُدخِلَ الجَدْرَ فِي البيتِ وأنْ أُلصِقَ بابهُ بِالأَرض"(3).
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه (4).
هذا هو الاحتياط الأول الذي يغلق الباب أمام المغرضين المتربصين بشريعة الإسلام، أما الاحتياط الثاني فهو أنهم وضعوا ضوابط لتغير الفُتيا، وهو ما سيتناول في مباحث تأتي إن شاء الله تعالى.
(1) انظر -مثلًا-: "صحيح البخاري"، كتاب الحج، باب: فضل الحج المبرور، (1519)، وكتاب التوحيد، باب: وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملًا، (7534)، و"صحيح مسلم": كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، (83، 85).
(2)
أخرجه: مسلم، كتاب الأضاحي، باب: بيان ما كان النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في الأول الإسلام و. . .، (1971)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه: البخاري، كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها، (1584)، ومسلم، كتاب الحج، باب: جدر الكعبة وبابها، (1333)، من حديث الأسود بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها به.
(4)
أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، باب: ما ينهى من دعوة الجاهلية، (3518)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (2584)، من حديث جابر رضي الله عنه، وفيه قصة.