الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - حكم استخدام الجن:
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: "فاستمتاع الإنسي بالجني: في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، ونحو ذلك، واستمتاع الجن بالإنس: تعظيمه إياه، واستعانته به واستغاثته وخضوعه"
(1)
.
فالغالب فيمن يستخدم الجن أن يدفع ثمن ذلك الاستخدام ويكون ذلك بطرق شركية كالذبح لهم أودعائهم أو الاستغاثة بهم وغير ذلك وكلما كثر من المستخدم ذلك كلما ازداد الجن في خدمته.
قال ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة، وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل، إما حروف الفاتحة، وإما حروف {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وإما غيرهما، إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة، أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك.
فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين؛ أعانتهم على بعض أغراضهم؛ إما تغوير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس؛ كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه، وتأتي به، وإما غير ذلك"
(2)
.
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية حكم استخدامهم فيقول: "فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه، ويأمر الإنس
(1)
شرح الطحاوية تحقيق أحمد شاكر ص 453.
(2)
مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية 19/ 35.
بذلك، فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه.
ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كان يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك، وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول: كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في لشرك وإما في قتل معصوم الدم في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه. وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة، فهذا استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص: إما فاسق، وإما مذنب غير فاسق، وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات: مثل أن يستغن بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به"
(1)
.
وفي فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين تلخيص لكلام ابن تيمية هذا نصه: "وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم، فإن كان على وجه التصديق في كل ما يخبرونه به والتعظيم للمسؤول فحرام، وإن كان ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز صدقه من كذبه فهذا جائز، وذكر أدلة ذلك ثم قال: وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار الفجار ليعرفوا ما
(1)
مجموع الفتاوى 11/ 307، 308. وكتاب النبوات ص 260، وانظر: للاستزادة كتاب المنتقى من فرائد الفوائد ص 231، 232 لابن عثيمين وهو ضمن مجموع فتاوى ابن عثيمين 7/ 252.
عندهم فيعتبروا به وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة، ثم ذكر أنه روى عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك امرأة لها قرين من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة.
وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم، وشاع الخبر فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن وسيأتي بريد الإنس بعد ذلك فجاء بعد ذلك بعدة أيام"
(1)
.
قال الشيخ سليمان - رحمه الله تعالى - في كتابه التيسير: "فأما المعزم الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن وأنها تطيعه، والذي يحل السحر، فقال في الكافي ذكرهما أصحابنا في السحرة الذين ذكرنا حكمهم. وقد توقف أحمد لما سئل عن الرجل يحل السحر، فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا؟ قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا يحل؟ قال: ما أدري هذا؟ قال: وهذا يدل على أنه لا يكفر صاحبه ولا يقتل.
قلت - القائل الشيخ سليمان -: إن كان ذلك لا يحصل إلا بالشرك بالله والتقرب إلى الجن، فإنه يكفر ويقتل، ونص أحمد لا يدل على أنه لا يكفر، فإنه قد يقول مثل هذا في الحرام البيِّن"
(2)
.
وقال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: "وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "إن الجن قد تخدم الإنسي" وهذا المقام فيه نظر وتفصيل؛ ذلك أنه رحمه الله ذكر في آخر كتاب "النبوات": أن أولياء الله لا يستخدمون الجن إلا بما فعله معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أمرَهم ونهاهم، أي: بالأوامر، والنواهي الشرعية، أما
(1)
مجموع الفتاوى لابن عثيمين 7/ 252 وكلام ابن تيمية في المجموع 19/ 62. وانظر للاستزادة لقاء الباب المفتوح 53/ 79.
(2)
تيسير العزيز الحميد ص 418.
طلب خدمتهم وطلب إعانتهم فإنه ليس من سجايا أولياء الله، ولا من أفعالهم، قال: مع أنه قد تنفع الجن الإنسَ، وقد تقدم له بعض الخدمة ونحو ذلك، وهذا صحيح من حيث الواقع.
فالحاصل أن المقام فيه تفصيل: فإذا كان الاستخدام بطلب الخدمة من الجني المسلم، فهذا وسيلة إلى الشرك، ولا يجوز أن يعالج عند أحد يُعرف منه أنه يستخدم الجن المسلمين، وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه، فإن هذا قد يحصل، لكن لم يكن هذا من خلق أولياء الله، ولا مما سخره الله جل وعلا لخاصة عباده، فلا يسلم مَنْ هذا حالُه من نوع خلل جعلتْ الجن تُكثر من خدمته وإخباره بالأمور، ونحو ذلك.
فالحاصل: أن هذه الخدمة إذا كانت بطلب منه، فإنها لا تجوز، وهي نوع من أنواع المحرمات؛ لأنها نوع استمتاع، وإذا كانت بغير طلب منه فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين ويستعيذ بالله من شر مردة الجن؛ لأنه قد يؤدِّي قبول خبرهم، واعتمادُه إلى حصول الأُنس بهم، وقد يقوده ذلك الاستخدام إلى التوسل بهم والتوجّه إليهم - والعياذ بالله -.
فإذا تبين ذلك: فإن خبر الجن عند أهل العلم ضعيف، لا يجوز الاحتجاج به عند أهل الحديث، وذكر ذلك أيضًا الفقهاء، وهذا صحيح؛ لأن البناء على الخبر وقبوله: هو فرعٌ عن تعديل المخبر، والجني غائب، وعدالته غير معروفة، وغير معلومة عند السامع، فإذا بنى الخبر عمن جاءه به من الجن وهو لم يرهم، ولم يتحقق عدالتهم إلا بما سمع من خطابهم - وهي لا تكفي - فإنه يكون قد قبل خبر من يحتمل أنه فاسق؛ ولهذا قال الله - جل وعلا -:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} .
[الحجرات:6]، والذين يقبلون إخبار الجن، وإعلام الجن لهم ببعض الحوادث، تحصل منهم مفاسد متنوعة كثيرة، منها هنا: جزمم بصحة ما أخبرتهم به الجن فربما حصل بسبب ذلك مفاسد عظيمة من الناس الذين أُخبروا بذلك، فيكثر القيل والقال، وقد تفرقت بعض البيوت من جراء خبر قارئ جاهل يزعم أن الذي فعل هذا هو فلان باعتبار الخبر الذي جاءه، ويكون الخبر الذي جاءه من الجني خبرًا كذبًا، فيكون قد اعتمد على نبأ هذا الذي لا يعلم عدالته، وبنى عليه وأخبر به، فيحصل من جَرَّائه فرقة واختلاف وتفرق وشتات في البيوت، ونعلم قد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم رحمه الله ن إبليس ينصب عرشه على ماء، ويبعث سراياه، فيكون أحب جنوده إليه من يقول له: فرّقت بين المرأة وزوجها
(1)
، وهذا من جملة التفريق الذي يسعى إليه عدو الله، بل الغالب أن يكون من هذه الجهة، فأحب ما يكون إلى عدو الله أن يفرق بين المؤمنين؟ ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أيضًا مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم"
(2)
.
فهذه المسألة يجب على طلاب العلم أن يسعوا في إنكارها، وبذل الجهد في إقامة الحجة على من يستخدم الجن، ويتذرع بأن بعض العلماء أباح ذلك، والواقع أن هذا العمل وسيلة من وسائل الشرك بالله - جل وعلا -، واقرؤوا أول كتاب "تاريخ نجد" لابن بشر، حيث قال: إن سبب دخول الشرك إلى قرى نجد أنه كان بعض البادية إذا أتى وقت الحصاد، أو أتى وقت خرف النخيل، فإنهم يقطنون بجانب تلك القرى ومعهم بعض الأدوية والأعشاب فإذا كانوا كذلك فربما سألهم بعض جهلة تلك القرى حى حببوا إليهم بعض تلك الأفعال المحرمة من
(1)
أخرجه مسلم (2813)(67).
(2)
أخرجه مسلم (2812).
جراء سؤالهم، وحببوا إليهم بعض الشركيات، أو بعض البدع، حتى فشا ذلك بينهم، فبسبب هؤلاء المتطببين الجهلة والقراء المشعوذين انتشر الشرك - قديمًا - في الديار النجدية وما حولها، كما ذكر ابن غنام.
وقد حصل أن بعض مستخدمي الجن كثر عنده الناس، فلما رأى من ذلك صار يعالج علاجًا نافعًا فزاد تسخُّر الجن له، حتى ضعُف تأثيره، فلما ضعف تأثيره ولم يستطع مع الحالات التي تأتيه للقراءة أو للعلاج شيئًا صار تعلقه بالجن أكثر، ولا زال ينحدر ما في قلبه من قوة اليقين، وعدم الاعتماد بقلبه على الجن، حتى اعتمد عليهم شيئًا فشيئًا، ثم حَرَفوه - والعياذ بالله - عن السنة، وعما يجب أن يكون في القلب من توحيد الله وإعظامه، وعدم استخدام الجن في لأغراض الشركية، فجعلوه يستخدم الجن في أغراض شركية وأغراض لا تجوز بالاتفاق.
فهذا الباب مما يجب وصده، وكذلك يجب إنكار وسائل الشرك والغواية، وحكم من يستخدم الجن ويعلن ذلك، ويطلب خدمتهم لمعرفة الأخبار فهذا جاهل بحقيقة الشرع، وجاهل بوسائل الشرك، وما يصلح المجتمعات وما يفسدها، والله المستعان"
(1)
.
3 -
قال ابن كثير: "ولا شك أن الجن لم يبعث الله تعالى منهم رسولًا. لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] "
(2)
.
وقد ذكر ابن عباس أن الجن فيهم نذر والدليل قوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29].
قال ابن القيم رحمه الله: "ولما كان الإنس أكمل من الجن أتم عقولًا ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أخر ليس شيء منها للجن وهم: الرسل، والأنبياء،
(1)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص 616 - 619.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير 4/ 183.
والمقربون. فليس في الجن صنف من هؤلاء، بل حليتهم الصلاح، وذهب شذاذ من الناس إلى أن فيهم الرسل والأنبياء محتجين على ذلك بقوله تعالى:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، وبقوله {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} إلى قوله:{مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، وقد قال الله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165]، وهذا قول شاذ لا يُلتفت إليه ولا يُعرف به سلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، وقوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} لا يدل على أن الرسل من كل واحدة من الطائفتين، بل إذا كانت الرسل من الإنس وقد أمرت الجن باتباعهم صح أن يقال للإنس والجن: ألم يأتكم رسل منكم، ونظير هذا أن يقال للعرب والعجم: ألم يجئكم رسل منكم يا معشر العرب والعجم، فهذا لا يقتضي أن يكون من هؤلاء رسل ومن هؤلاء. وقال تعالى:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16]، وليس في كل سماء قمر، وقوله تعالى:{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] فالإنذار أعم من الرسالة والأعم لا يستلزم الأخص قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] فهؤلاء نذر وليسوا برسل، قال غير واحد من السلف: الرسل من الإنس، وأما الجن ففيهم النذر قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]، فهذا يدل على أنه لم يرسل جنيًا ولا امرأة ولا بدويًا، وأما تسميته تعالى الجن رجلًا في قوله:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] فلم يطلق عليهم الرجال، بل هي تسمية مقيدة بقوله {مِنَ الْجِنِّ} فهم رجال من الجن ولا يستلزم ذلك دخولهم في الرجال عند
الإطلاق كما تقول: رجال من حجارة، ورجال من خشب ونحوه"
(1)
قال ابن مفلح رحمه الله في الفروع: "لم يبعث إليهم - أي الجن - نبي قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "
(2)
.
قال الشيخ ابن عثيمين معلقًا على كلام ابن مفلح: "ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة"
(3)
.
فأما قوله تعالى عن الجن {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} [الأحقاف: 30]. فظاهره أنهم كانوا يتعبَّدون بشريعة موسى، وكذا هو ظاهر حال الجن المسخرين لسليمان أي أن الظاهر أنهم كانوا يتعبدون بشريعة سليمان، وكان يتعبد بشريعة موسى، هكذا قيل إنه ظاهر حالهم وفيه نظر ولكن يكفينا ظاهر الآية.
والجواب: أن الظاهر أنه لم يكلف بالرسالة إليهم، وإن كانوا قد يتعبدون بها - والله أعلم - "
(4)
.
4 -
أنكر بعض من قصر علمه وقوع المس وصرع الجن مع وجود الأدلة الظاهرة على دخول الجن في الإنس. قال ابن حجر رحمه الله: "ويكون الصرع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذى به والأول هو الذي يثبته الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة الأرواح الخيرية
(1)
طريق الهجرتين ص 394، 395.
(2)
مجموع الفتاوى لابن عثيمين 7/ 258، وكذا قال القرطبي في التفسير، انظر الجامع لأحكام القرآن 16/ 217، وانظر طريق الهجرتين لابن القيم ص 421، 422.
(3)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521).
(4)
مجموع الفتاوى لابن عثيمين 7/ 258.
العلوية لتندفع آثار الأرواح الشرية السفلية وتبطل أفعالها"
(1)
.
ومن الأدلة على وجود الصرع والمس قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].
قال الإمام القرطبي: "في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس"
(2)
.
وقال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} : يعني بذلك يتخبطه الشيطان في الدنيا فيصرعه من المس يعني من الجنون"
(3)
.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية أي: "لا يقومون إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياما منكرًا"
(4)
.
وقال الألوسي: "إلا قيامًا كقيام المتخبط المصروع في الدنيا، والتخبط تَفَعُّل بمعنى فعل، وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة
…
وقوله تعالى: {مِنَ الْمَسِّ} أي الجنون، يقال مس الرجل فهو ممسوس: إذا جن، وأصله اللمس باليد وسمي به لأن الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسد ويحدث الجنون"
(5)
.
(1)
الفتح 10/ 114.
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 30/ 230.
(3)
تفسير الطبري 3/ 101.
(4)
تفسير ابن كثير 1/ 334.
(5)
تفسير الألوسي روح المعاني: الآية 275 البقرة.
وفي حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، جعل يعرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلِّي فلما رأيت ذلك، رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ابن أبي العاص؟ " قلت: نعم رسول! قال: "ما جاء بك؟ " قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلواتي، حتى ما أدري ما أصلي. قال:"ذاك الشيطان، ادنُهْ" فدنوت منه، فجلست على صدور قدمي. قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي، وقال:"اخرج عدو الله" ففعل ذلك ثلاث مرات ثم قال: "الحق بعملك"
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة قال تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"
(2)
.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قلت لأبي: إن أقوامًا يقولون: إن الجني لا يدخل في بدن المصروع. فقال: يا بني يكذبون، هذا يتكلم على لسانه.
وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربًا عظيمًا لو ضرب به جمل لأثر به أثرًا عظيمًا، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع، وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علمًا ضروريًا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان.
(1)
أخرجه ابن ماجه في السنن كتاب الطب (3548).
(2)
أخرجه البخاري (2039)، ومسلم (2175).