الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا شيء إلا كفّر له بها حتى الشوكة يشاكها"، كما أنه قد يزداد إيمان المرء بذلك"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأعلى من ذلك، أي: من الرضى أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله تعالى عليه بها، حيث جعلها سببًا لتكفير خطاياه ورفع درجاته، وإنابته وتضرعه إليه وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين"
(2)
.
5 - حكم الرضا بقضاء الله جل وعلا:
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: "قال ابن عقيل: الرضا بقضاء الله تعالى واجب فيما كان من فعله تعالى كالأمراض ونحوها، قال: فأما ما نهي عنه من أفعال العباد كالكفر والضلال فلا يجوز إجماعا، إذ الرضا بالكفر والمعاصي كفر وعصيان.
وذكر الشيخ تقي الدين أن الرضا بالقضاء ليس بواجب في أصح قولي العلماء إنما الواجب الصبر"
(3)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وينبغي للإنسان أن يرضى بما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوبا مثل أن يبتليه بفقر أو مرض أو ذل وأذى الخلق له فإن الصبر على المصائب واجب وأما الرضا بها فهو مشروع لكن هل هو واجب أو مستحب على قولين لأصحاب أحمد وغيرهم أصحهما أنه مستحب ليس بواجب"
(4)
.
وقال ابن القيم: "وقد أجمع العلماء على أنه مستحب مؤكد استحبابه. واختلفوا في وجوبه على قولين. وسمعت شيخ الإسلام يحكيهما على قولين لأصحاب أحمد وكان يذهب إلى القول باستحبابه، قال ابن تيمية: ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر
(1)
مجموع الفتاوى لابن عثيمين 10/ 695، 694، وانظر القول المفيد ط 1 - 2/ 216، 217.
(2)
مجموع الفتاوى 11/ 260.
(3)
الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 30.
(4)
مجموع الفتاوى 8/ 191، وانظر أيضا للاستزادة المجموع 2/ 250.
بالصبر وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم"
(1)
.
وقال رحمه الله في كتابه شفاء العليل: "وقد تنازع الناس فيه هل هو واجب أو مستحب على قولين وهما وجهان لأصحاب أحمد فمنهم من أوجبه واحتج على وجوبه بأنه من لوازم الرضا بالله ربًا وذلك واجب واحتج بأثر إسرائيلي: "من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ له ربًّا سواي"
(2)
.
ومنهم من قال: هو مستحب غير واجب فإن الإيجاب يستلزم دليلًا شرعيًا ولا دليل يدل على الوجوب وهذا القول أرجح فإن الرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات". وقال: "إن طائفة أجابت بأن التقديرات لها وجهين وجها يرضى بها منه وهو إضافتها إلى الله سبحانه خلقا ومشيئة ووجه يسخط منه وهو إضافتها إلى العبد فعلا واكتسابا".
ثم يوضح ذلك بقوله: "الحكم والقضاء نوعان ديني وكوني، فالديني يجب الرضا به وهو من لوازم الإسلام، والكوني منه ما يجب الرضا به كالنعم التي يجب شكرها ومن تمام شكرها الرضا بها، ومنه ما لا يجوز الرضا ربه كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله وإن كانت بقضائه وقدره، ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب وفي وجوبه قولان هذا كله في الرضا بالقضاء الذي المقضي، وأما الذي هو وصفه سبحانه وفعله كعلمه وكتابه وتقديره ومشيئته فالرضا به من تمام الرضا بالله ربًا وإلهًا ومالكًا ومدبرًا، فبهذا التفصيل يتبين الصواب ويزول اللبس في هذه المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس""
(3)
.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما الرضا فقد تنازع العلماء والمشايخ من
(1)
مدارج السالكين 2/ 171.
(2)
قال ابن تيمية: "هذا أثر إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم" نقلًا عن ابن القيم، مدارج السالكين 2/ 171.
(3)
شفاء العليل لابن قيم الجوزية 1/ 278.
أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء: هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين: فعلى الأول: يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني: يكون من أعمال المقربين. قال عمر بن عبد العزيز: الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس:"إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا".
ولهذا لم يجيء في القرآن إلا مدح الراضين لا إيجاب ذلك، وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب كالمرض والفقر والزلزال كما قال تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214] فالبأساء في الأموال، والضراء في الأبدان، والزلزال في القلوب.
وأما الرضا بما أمر به فأصله واجب، وهو من الإيمانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا"، وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء الله تعالى، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة: 59]، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [محمد: 28]، وقال تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 54].
ومن النوع الأول ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سعادة ابن آدم استخارته لله ورضاه بما قسم الله له، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته لله وسخطه بما يقسم الله له".
وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان فأكثر العلماء يقولون لا يشرع الرضا بها، كما لا يشرع محبتها، فإن الله سبحانه لا يرضاها ولا يحبها، وإن كان قد قدّرها وقضاها كما قال سبحانه:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205]، وقال تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقال تعالى:{وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]؛ بل يسخطها كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [محمد: 28].
وقالت طائفة: ترضى من جهة كونها مضافة إلى الله خلقًا وتُسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فعلًا وكسبًا. وهذا القول لا ينافي الذي قبله، بل هما يعودان إلى أصل واحد، وهو سبحانه إنما قدر الأشياء لحكمة، فهي باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية، وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة، إذ الشيء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من أحدهما ويكره من الآخر، كما في الحديث الصحيح:"ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه".
وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف الله وفعله لا بالمقضي الذي هو مفعوله، فهو خروج منه عن مقصود الكلام فإن الكلام ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب تعالى من صفاته وأفعاله، وإنما الكلام في الرضا بمفعولاته والكلام فيما يتعلق بهذا قد بيَّناه في غير هذا الموضع"
(1)
.
(1)
التحفة العراقية ص 55 - 58.