الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تكلم الفقهاء في حكمه: هو الأول، لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسرّه.
وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان بقوله:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]. وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر. كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88].
فهذا أصل ينبغي معرفته فإنه مهم في هذا الباب. فإن كثيرا ممن تكلم في "مسائل الإيمان والكفر" - لتكفير أهل الأهواء - لم يلحظوا هذ الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام ومن تدبر هذا علم أن كثيرا من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمنا مخطئا جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد يكون منافقا زنديقا يظهر خلاف ما يبطن"
(1)
.
*
حكم توبة الزنديق:
قال الخرقي: "ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء، وكان بالغًا عاقلًا، دُعي إليه ثلاثة أيام، وضيّق عليه فإن رجع وإلا قتل" ا. هـ
قال ابن قدامة رحمه الله: "الفصل الخامس: أن مفهوم كلام الخرقي أنه إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل أيَّ كُفْرٍ كان، وسواءٌ كان زنديقًا يستسر بالكفر أو لم يكن وهذا مذهب الشافعي والعنبري، ويروى عن علي وابن مسعود وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال وقال إنه أولى على مذهب أبي عبد الله، والرواية
(1)
مجموع الفتاوى 7/ 471.
الأخرى لا تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته هو قول مالك والليث وإسحاق وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين وأخبار أبو بكر أنه لا تقبل توبة الزنديق لقول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160] والزنديق لا تظهر منه علامة تبين رجوعه وتوبته لأنه كان مظهرًا للإسلام مسرًّا للكفر فإذا وقف على ذلك فأظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار الإسلام"
(1)
.
وقال أيضًا: "وقول أصحابنا لا تقبل توبة الزنديق معناه لا يسقط عنه القتل الذي توجه عليه لعدم علمنا بحقيقة توبته؛ لأن أكثر ما فيه أنه أظهر إيمانه وقد كان دهره يظهر إيمانه ويستر كفره فأما عند الله عز وجل فإنها تصح إذا علم منه حقيقة الإنابة وصدق التوبة واعتقاد الحق"
(2)
.
وأما من تكررت ردته فقد قال تعالى: {(136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء: 137].
وفي الجملة: فالخلاف بين الأئمة في قبول توبته في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتله وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهرًا أو باطنًا فلا خلاف فيه فإن الله تعالى قال في المنافقين:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146].
قال شيخ الإسلام: "لكن العلماء لهم قولان في الزنديق إذ أظهر التوبة: هل تقبل توبته فلا يقتل؟ أم يقتل؛ لأنه لا يعلم صدقه؛ فإنه ما زال يظهر ذلك؟ فأفتى طائفة بأنه يُستتاب فلا يُقتل، وأفتى الأكثرون بأنه يُقتل وإن أظهر التوبة، فإن كان
(1)
المغني 9/ 18.
(2)
المغني 2/ 266.
صادقًا في توبته نفعه ذلك عند الله وقتل في الدنيا، وكان الحد تطهيرًا له، كما لو تاب الزاني والسارق ونحوهما بعد أن يرفعوا إلى الإمام فإنه لابد من إقامة الحد عليهم؛ فإنهم إن كانوا صادقين كان قتلهم كفارة لهم، ومن كان كاذبًا في التوبة كان قتله عقوبة له"
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه الآية أنزلها الله قبل الأحزاب وظهور الإسلام وذل المنافقين فلم يستطيعوا أن يظهروا بعد هذا ما كانوا يظهرونه قبل ذلك قبل بدر وبعدها وقبل أحد وبعدها فأخفوا النفاق وكتموه فلهذا لم يقتلهم النبي، وبهذا يجيب من لم يقتل الزنادقة ويقول إذا أخفوا زندقتهم لم يمكن قتلهم ولكن إذا أظهروها قتلوا بهذه الآية بقوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} "
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى 35/ 110، وانظر 13/ 21، 11/ 405.
(2)
مجموع الفتاوى 13/ 21.