الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيقٍ آخَر وَقَالَ فِيهِ: "أَرْبَعَة وَسِتُّونَ بَابًا".
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الرَّاجِحَة مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الصَّوَاب مَا وَقَعَ فِي سَائِر الأَحَادِيث وَلسَائِرِ الرُّوَاة "بضْع وَسِتُّونَ".
وَقَالَ الشَّيْخ أبو عَمْرو بْن الصَّلاحَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هَذَا الشَّكُّ الْوَاقِع فِي رِوَايَة سُهَيْل هُوَ مِنْ سُهَيْل، كَذَا. قَالَهُ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُهَيل "بضْع وَسَبْعُونَ" مِنْ غَيْر شَكٍّ.
وَأَمَّا سُلَيْمَان بْن بلال فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَلَى الْقَطْع مِنْ غَيْر شَكٍّ وَهِيَ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَة أَخْرَجَاهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ غَيْر أنَّهَا فِيمَا عِنْدنَا مِنْ كِتَاب مُسْلِم "بضْع وَسَبْعُونَ" وَفِيمَا عِنْدنَا مِنْ كِتَاب الْبُخَارِيِّ "بضْع وَسِتُّونَ". وَقَدْ نَقَلْت كُلّ وَاحِدَة عَنْ كُلّ وَاحِد مِنْ الْكِتَاتيْنِ وَلَا إِشْكَال فِي أَنَّ كُل وَاحِدَة مِنْهُمَا رِوَايَة مَعْرُوفَة فِي طرق رِوَايَات هَذَا الْحَدِيث وَاخْتَلَفُوا فِي التَّرْجِيح قَالَ: وَالأَشْبَه بِالإِتْقَانِ وَالاحْتِيَاط تَرْجِيح رِوَايَة الأقَلّ. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ رِوَايَة الأكْثَر، وَإِيَّاهَا اِخْتَارَ أَبُو عَبْد الله الْحَلِيمِيُّ؛ فَإِنَ الْحُكْم لِمَنْ حَفِظَ الزِّيَادَة جَازِ بها"
(1)
وذكر النووي رحمه الله أن أبا حاتم ذكر أن: "رِوَايَة مَنْ رَوَى "بضْع وَسِتُّونَ شُعْبة". أَيْضًا صَحِيحَة؛ فَإِنَّ الْعَرَب قَدْ تَذْكُر لِلشَّيْءِ عَدَدًا وَلَا ترِيد نَفْي مَا سِوَاهُ. وَلَهُ نَظَائِر أَوْرَدَهَا فِي كِتَابه مِنْهَا فِي أَحَادِيث الإِيمَان وَالإسلَام. وَالله تَعَالى أَعْلَم
…
"
(2)
.
*
الاجتهاد في حصر شعب الإيمان ومعرفتها:
اجتهد العلماء في عدها فذكرها الحليمي صاحب المنهاج سبعا وسبعين، وعدها الحافظ أبو حاتم بن حبان تسعًا وسبعين فقال: "وقد تتبعت معنى الخبر مدة، وذلك أن مذهبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم قط إلا بفائدة ولا من سننه شيء لا
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 194.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 194.
يعلم معناه، فجعلت أعد الطاعات من الإيمان فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئًا كثيرًا، فرجعت إلى السنن فعددت كل طاعة عدها رسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، فإذا هي تنقص من البضع والسبعين، فرجعت إلى ما بين الدفتين من كلام ربنا وتلوته آية آية بالتدبر وعددت كل طاعة عدها الله جل وعلا من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممت الكتاب إلى السنن وأسقطت المُعاد منها فإذا كل شيء عده الله جل وعلا من الإيمان في كتابه وكل طاعة جعلها رسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان في سننه تسع وسبعون شعبة لا يزيد عليها ولا ينقص منها شيء فعلمت أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخبر أن الإيمان بضع وسبعون شعبة في الكتاب والسنن"
(1)
.
وقال النووي: "قَالَ الشَّيْخ: ثمَّ إِنَّ الْكَلام فِي تَعْيِين هَذه الشُّعَب يَطُول وَقَدْ صُنِّفَتْ فِي ذَلِكَ مُصَنّفات. وَمِنْ أَغْزَرهَا فَوَائِد كِتَاب (الْمِنْهَاج) لأَبي عَبْد الله الْحَلِيمِيِّ إِمَام الشَّافِعِيِّينَ بِبُخَارَى. وَكَانَ مِنْ رُفَعَاءِ أَئِمَّة الْمُسْلِمِينَ. وَحَذَا حَذْوه الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله فِي كِتَابه الْجَلِيل الْحَفِيل كِتَاب "شُعَب الإِيمَان""
(2)
.
وشعب الإيمان المتعددة بعضها دعائم وأصول يزول الإيمان بزوالها مثل إنكار الإيمان باليوم الآخر
(3)
وبعضها فروع قد لا يزول الإيمان بزوالها، وإن كان يوجب تركها نقصا في الإيمان أو فسقًا. مثل عدم إكرام الجار
(4)
، وقد يجتمع في الإنسان شعب الإيمان، وشعب نفاق، فيستحق بشعب النفاق العذاب ولا يخلد في
(1)
صحيح ابن حبان 1/ 387.
(2)
شرح النووي 1/ 194
(3)
قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].
(4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه". أخرجه البخاري (6475).
النار لما في قلبه من الإيمان. والله أعلم
(1)
.
وقال ابن رجب بعد أن ذكر الحديث: "فأشار إلى أن خصال الإيمان، منها ما هو قول باللسان، ومنها ما هو عمل بالجوارح، ومنها ما هو قائم بالقلب ولم يزد في شيء من هذه الروايات على هذه الخصال"
(2)
.
وقال النووي: "وَقَدْ نَبَّهَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ أَفْضَلهَا التَّوْحِيد الْمُتَعَيِّن عَلَى كُلّ أَحَد، وَالَّذِي لا يَصِحّ شَيْء مِنْ الشُّعَب إِلَّا بَعْد صِحَّتِهِ. وَأَدْنَاهَا مَا يُتَوَقَّع ضَرَره بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ إِمَاطَة الأَذَى عَنْ طَرِيقهمْ. وَبَقِيَ بَيْن هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ أَعْدَاد لَوْ تَكَلَّفَ الْمُجْتَهِد تَحْصِيلهَا بغَلَبَةِ الظَنِّ، وَشِدَّة التَّتَبُّع لأَمْكَنَهُ. وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْض مَنْ تَقَدَّمَ. وَفِي الْحُكْم بأَنَ ذَلِكَ مُرَاد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صُعُوبَة، ثُمَّ إِنَهُ لا يَلْزَم مَعْرِفَة أَعْيَانهَا، وَلا يَقْدَح جَهْل ذَلِكَ فِي الإِيمَان إِذْ أُصُول الإِيمَان وَفُرُوعه مَعْلُومَة مُحَقَّقَة، وَالإِيمَان بِأَنَّهَا هَذَا الْعَدَد وَاجِب فِي الْجُمْلَة. هَذَا كَلام الْقَاضِي رحمه الله"
(3)
.
وقال ابن رجب: "وفي القطع على أن ذلك هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الخصال عُسر"
(4)
.
مسألة: أهل السنة عندهم أن كل طاعة فهي داخلة في الإيمان، سواءٌ كانت من أعمال الجوارح أو القلوب أو من الأقوال، وسواء في ذلك الفرائض والنوافل، هذا قول الجمهور الأعظم منهم، وحينئذ فهذا لا ينحصر في بضع وسبعين، بل يزيد على ذلك زيادة كثيرة، بل هي غير منحصرة، وقد أجاب الحافظ ابن رجب فقال: "يمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة:
(1)
وانظر تفصيل ذلك في باب (الإيمان) من هذا الكتاب.
(2)
فتح الباري لابن رجب 1/ 29.
(3)
شرح النووي 1/ 194.
(4)
فتح الباري لابن رجب 1/ 29.
أحدها: أن يقال: إن عدد خصال الإيمان عند قول النبي صلى الله عليه وسلم كان منحصرًا في هذا العدد، ثم حدثت الزيادة فيه بعد ذلك، حتى كملت خصال الإيمان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا نظر.
والثاني: أن تكون خصال الإيمان كلها تنحصرُ في بضعٍ وسبعين نوعًا، وإن كانت أفراد كل نوع تتعدد تعددًا كثيرًا، وربما كان بعضها لا ينحصر. وهذا أشبه، وإن كان الوقوف على ذلك يتعسَّر أو يتعذر.
والثالث: أن ذكر السبعين على وجه التكثير للعدد، لا على وجه الحصر، كما في قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
والمراد: تكثيرُ التعداد من غير حصوله في هذا العدد، ويكون ذكره للبضع يشعر بذلك، كأنه يقول: هو يزيد على السبعين المقتضية لتكثير العدد وتضعيفه.
وهذا ذكره بعض أهل الحديث من المتقدمين، وفيه نظر.
والرابع: أن هذه البضع وسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها، وهو الذي تدعو إليه الحاجةُ منها. قاله ابن حامد من أصحابنا"
(1)
.
مسألة أخرى: تضمن كلام العلماء أن أركان الإيمان ستة بناءً على حديث جبريل عليه السلام فكيف يُجمع بينها وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة"؟.
قال الشيخ ابن عثيمين في الجمع بين ذلك: "أن نقول الإيمان الذي هو العقيدة أصوله ستة وهي المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن الإيمان فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره - متفق عليه -. وأما الإيمان الذي يشمل الأعمال وأنواعها وأجناسها فهو بضع وسبعون شعبة ولهذا سمى الله تعالى الصلاة إيمانا في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] قال المفسرون: يعني صلاتكم إلى بيت المقدس؛
(1)
فتح الباري لابن رجب 1/ 30، 31.