الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعرفه الجنيد بأنه: "توقع العقوبة على مجاري الأنفاس"
(1)
.
والخوف من أنواع العبادة قال ابن القيم: "الخوف عبودية القلب فلا يصلح إلا لله، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب"
(2)
.
وقد تقدم ذكر الفرق بينها وبين الخشية
(3)
.
* الدليل من الكتاب: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمرك:175]، وقوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10]، وقوله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].
* الدليل من السنة: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ قَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ فُلَانٌ: فَنَزَلَتْ هَذه الآيَةُ: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} "
(4)
.
*
أقسام الخوف:
قسم العلماء رحمه الله الخوف إلى أربعة أقسام. قال الشيخ سليمان بن عبد الله:
(أحدها: خوف السر وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف
(1)
مدارج السالكين 1/ 512.
(2)
طريق الهجرتين ص 437.
(3)
انظر باب (الخشية).
(4)
أخرجه البخاري (4621).
بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلًا، لأن هذا من لوازم الإلهية فمن اتخذ مع الله ندًا يخافه هذا الخوف فهو مشرك، وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال لهم:{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: 80 - 81]. وقال تعالى عن قوم هود أنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} [هود: 54]، وقال تعالى:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وهذا القسم هو الواقع اليوم من عباد القبور، فإنهم يخافون الصالحين بل الطواغيت، كما يخافون الله بل أشد. ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبا أو صادقًا، فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يقدر على اليمين إن كان كاذبًا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله. ولا ريب أن هذا ما بلغ إليه شرك الأولين، بل جهد أيمانهم اليمين بالله تعالى، وكذلك لو أصاب أحدا منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب. وإذا أراد أن يظلم أحدا فاستعاذ بالله أو ببيته لم يعذه، ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم عليه أحدا ولم يتعرض له بالأذى حتى ان بعض الناس أخذ من التجار أموالا عظيمة أيام موسم الحاج، ثم بعد أيام أظهر الإفلاس، فقام عليه أهل الأموال، فالتجأ إلى قبر في جدة يقال له: المظلوم فما تعرض له أحد بمكروه خوفا من سر المظلوم وأشباه هذا من الكفر، وهذا الخوف
لا يكون العبد مسلما إلا بإخلاصه لله تعالى وإفراده بذلك دون من سواه.
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف من الناس، فهذا محرم
(1)
وهو الذي نزلت فيه الآية المترجم لها
(2)
وهو الذي جاء فيه الحديث: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذا رأيت المنكر أن لا تغيره فيقول: يارب خشيت الناس، فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى" رواه أحمد
(3)
.
الثالث: خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة وهو الذي قال الله فيه: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]، وقال:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن:46]، وقال تعالى:{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)} [الطور: 26]، وقال تعالى:{وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان ونسبة الأول إليه كنسبة الإسلام إلى الإحسان وإنما يكون محمودا إذا لم يوقع في القنوط واليأس من روح الله ولهذا قال شيخ الإسلام: هذا الخوف ما حجزك عن معاصي الله فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه.
الرابع: وهو الخوف الطبيعي كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك فهذا لا يذم. وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والسلام في قوله: {فَخَرَجَ
(1)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "أن يترك الإنسان ما يجب عليه، خوفًا من بعض الناس، فهذا محرم وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد" فتح المجيد ص 396.
(2)
يقصد بذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
(3)
أخرجه أحمد (11275) وابن ماجه (4008)، والبيهقي 9/ 90، 91. ونصه:"لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرًا لله عليه فيه مقالة ثم لا يقوله فيقول الله: ما منعك أن تقول فيه؟ فيقول: رب خشيت الناس فيقول: وأنا أحق أن يخشى".
مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] "
(1)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لكن إذا كان هذا الخوف
(2)
سببًا لترك واجب أو فعل محرم كان حرامًا؛ لأن ما كان سببًا لترك واجب أو فعل محرم فهو حرام ودليله قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] "
(3)
.
وهناك خوف وهمي كالخوف الذي ليس له سبب أصلًا وهذا مذموم.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في بيان هذه الأقسام: "اعلم أن الخوف والخشية تارة يقع عبادة وتارة يقع طبيعة وعادة، وذلك بحسب أسبابه ومتعلقاته.
فإن كان الخوف والخشية خوف تأله وتعبد وتقرب بذلك الخوف إلى من يخافه، وكان يدعو إلى طاعة باطنه وخوف سري يزجر عن معصية من يخافه كان تعلقه بالله من أعظم واجبات الإيمان. وتعلقه بغير الله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ لأنه أشرك في هذه العبادة التي هي من أعظم واجبات القلب غير الله مع الله، وربما زاد خوفه من غير الله على خوفه لله.
وأيضا فمن خشي الله وحده على هذا الوجه فهو مخلص موحد، ومن خشي غيره فقد جعل لله ندًا في الخشية كمن جعل لله ندًا في المحبة، وذلك كمن يخشى من صاحب القبر أن يوقع به مكروها أو يغضب عليه فيسلبه نعمه أو نحو ذلك مما هو واقع من عباد القبور.
وإن كان الخوف طبيعيا كمن يخشى من عدو أو سبع أو حية أو نحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهري، فهذا النوع ليس عبادة، وقد يوجد من كثير من المؤمنين،
(1)
تيسير العزيز الحميد ص 487، 489.
(2)
أي الخوف الطبيعي.
(3)
مجموع فتاوى ابن عثيمين 6/ 53. وانظر أيضًا مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 646. والقول المفيد ط 1 - 2/ 164.
ولا ينافي الإيمان، وهذا إذا كان خوفا محققًا قد انعقدت أسباب الخوف فليس بمذموم.
وإن كان هذا خوفًا وهميًا كالخوف الذي ليس له سبب أصلًا، أو له سبب ضعيف فهذا مذموم يدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ صلى الله عليه وسلم من الجبن فهو من الأخلاق الرذيلة"
(1)
.
* تنبيه: على العبد أن لا يفعل شيئًا من أنواع العبادات والقرب لأجل الناس، لا رجاء مدحهم ولا خوفًا منهم، ولا يلتمس رضا الناس بسخط الله بل يرج الله ويخافه ويلتمس رضاه سبحانه ويفعل ما أمر به وإن كره الناس منه ذلك. قال شيخ الإسلام:"والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم، ولا ترجوهم في الله، وتخاف الله فيهم، ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفا من الله لا منهم، كما جاء في الأثر: "أرج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله". أي لا تفعل شيئا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم، لا رجاء مدحهم ولا خوفا منهم، بل ارج الله، ولا تخفهم في الله فيما تأتي وتذر، بل افعل ما أمرت وإن كرهوه"
(2)
.
وقال رحمه الله: "كلما قويت محبة العبد لمولاه صغرت عنده المحبوبات وقلت وكلما ضعفت كثرت محبوباته ونتشرت، وكذا الخوف والرجاء وما أشبه ذلك فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئا سواه قال الله تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39]، وإذا نقص خوفه خاف
(1)
القول السديد ص 98.
(2)
مجموع الفتاوى 1/ 51.
من المخلوق، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة، وكذا الرجاء وغيره فهذا هو الشرك الخفى الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا من عصمه الله تعالى"
(1)
.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ومن خافه واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2 - 3] فلا تستبطيء نصره ورزقه وعافيته فإن الله تعالى بالغ أمره وقد جعل الله لكل شيء قدرًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر ومن لم يخفه أخافه من كل شيء وما خاف أحدا غير الله إلا لنقص خوفه من الله قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل:98 - 100]، وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في صدوركم فلا تخافوهم وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم"
(2)
.
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف، وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه فالعاقبة له، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله انقلبت عليه الأحوال ولم ينل مقصوده بل حصل له على مقصوده، وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس"
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى 14/ 206.
(2)
بدائع الفوائد 2/ 463.
(3)
مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 665. وانظر القول المفيد ط 1 - 2/ 184.