الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذه الأحكام الثلاثة وما يترتب عليها من التفريعات المبنية عليها لم يختلف فيها أهل العلم لأن نصوص الكتاب والسنة فيها كثيرة قاطعة صريحة"
(1)
.
4 - حكم مرتكب الشرك الأصغر:
تبين مما سبق أن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة ولا يخلد صاحبه في النار وقد ذكر العلماء في حكم مرتكبه قولين:
* القول الأول: أن الشرك الأصغر لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة لعموم الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
…
} [النساء:116]. وهذه الآية قال عنها بعض أهل العلم أنها تشمل كل شرك ولو كان أصغر كالحلف بغير الله فإن الله لا يغفره، وأما بالنسبة لكبائر الذنوب كالخمر والزنى فإنها تحت المشيئة إن شاء الله غفرها وإن شاء أخذ بها.
وقد تكلم شيخ الإسلام عن هذه المسألة ولكن اختلف كلامه فيها، قال الشيخ ابن عثيمين عن ذلك:"فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر"
(2)
.
وذكر أنه استدل على أن "الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر؛ لعموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} و {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وأن مؤول بمصدر تقديره: شركًا به، وهو نكرة في سياق النفي؛ فيفيد العموم"
(3)
.
وبالنظر إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نجده يقول:
"وأعظم الذنوب عند الله الشرك به، وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، والشرك منه جليل ودقيق، وخفي وجلي"
(4)
.
(1)
مستفاد من كتاب جهود السعدي ص 187، 188.
(2)
مجموع فتاوى ابن عثيمين 2/ 204.
(3)
مجموع فتاوى ابن عثيمين 9/ 198.
(4)
جامع الرسائل 2/ 254.
ويقول بعبارة صريحة: "وقد يقال: الشرك لا يغفر منه شيء لا أكبر ولا أصغر على مقتضى القرآن، وإن كان صاحب الشرك يموت مسلما، لكن شركه لا يغفر له، بل يعاقب عليه، وإن دخل بعد ذلك الجنة"
(1)
.
* القول الثاني: أن الشرك الأصغر داخل تحت المشيئة، ويكون المراد بقوله:"أن يشرك به" الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر؛ فإنه يغفر لأنه لا يخرج من الملة، وكل ذنب لا يخرج من الملة؛ فإنه تحت المشيئة، وهذا القول لا يقلل من أهميته؛ فصاحب الشرك الأصغر على خطر، وهو أكبر من كبائر الذنوب، قال ابن مسعود رضي الله عنه:"لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"
(2)
.
ويفهم من عبارات ابن القيم أن الشرك الأصغر تحت المشيئة، حيث يقول رحمه الله:"فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الله لا يغفر أن يشرك به والمخففة الشرك الأصغر كيسير الرياء"
(3)
.
ويقول: "الشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه"
(4)
إلى أن يقول: "وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للمخلوق"
(5)
.
وقد بحث العّلامة السعدي هذه المسألة فقال رحمه الله: "من لحظ إلى عموم الآية -
(1)
الرد على البكري تلخيص كتاب الاستغاثة ص 146 وانظر رسالة البيان الأظهر لعبد الله أبابطين ص 10 وتيسير العزيز الحميد ص 98.
(2)
انظر مجموع فتاوى ابن عثيمين 9/ 199.
(3)
إغاثة اللهفان 1/ 98. الجواب الكافي ص 177، ومع ذلك فإن ابن القيم يؤكد على أن الشرك فوق رتبة الكبائر كما ذكر ذلك في إعلام الموقعين 4/ 403. انظر كتاب الشرك لآل عبد اللطيف ص 35، 36.
(4)
مدارج السالكين 1/ 339.
(5)
مدارج السالكين 1/ 344.
يعني قوله تعالى - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وأنه لم يخص شركًا دون شك، أدخل فيها الشرك الأصغر، وقال إنه لا يغفر، بل لا بد أن يعذب صاحبه، لأن من لم يغفر له لابد أن يعاقب، ولكن القائلين بهذا لا يحكمون بكفره، ولا بخلوده في النار، وإنما يقولون: يعذب عذابا بقدر شركه، ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة.
وأما من قال: إن الشرك الأصغر لا يدخل في الشرك المذكور في هذه الآية، وإنما هو تحت المشيئة فإنهم يحتجون بقوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] فيقولون: كما أنه بإجماع الأئمة أن الشرك الأصغر لا يدخل في تلك الآية، وكذلك لا يدخل في قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] لأن العمل هنا مفرد مضاف، ويشمل الأعمال كلها، ولا يحبط الأعمال الصالحة كلها إلا الشرك الأكبر.
ويؤيد قولهم أن الموازنة بين الحسنات والسيئات التي هي دون الشرك الأكبر، لأن الشرك الأكبر لا موازنة بينه وبين غيره فإنه لا يبقى معه عمل ينفع.
قالوا: وإذا فارق الشرك الأكبر في تلك الأحكام السابقة بأنه لا يحكم عليه بالكفر والخروج من الإسلام ولا بالخلود في النار، فارقه في كونه مثل الذنوب التي دون الشرك وأنه تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه؛ ولأن مشاركته للكبائر في أحكامها الدنيوية والأخروية أكثر من مشاركته للشرك الأكبر ويؤيد قولهم أن الموازنة واقعة بين الحسنات وبين السيئات التي هي دون الشرك الأكبر لأن الشرك الأكبر لا موازنة بينه وبين غيره فإنه لا يبقى معه عمل ينفع.
وأما السيئات التي دونه فيقع بينها الموازنة من رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة بلا عذاب، ومن رجحت سيئاته على حسناته، استحق دخول النار بقدر ذنوبه، ومن تساوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف الذين مآلهم إلى دخول
الجنة، ولكن الأولون قد يجيبون عن هذا بأنه قد يعذب صاحب الشرك الأصغر قبل الموازنة، إما في البرزخ، وإما قبل ذلك أو بعده في عرصات القيامة، فيقول الآخرون: وكذلك الكبائر قد يعذب صاحبها قبل الموازنة فتسقط الموازنة بها فلا يختص بذلك الشرك الأصغر، ومن تأمل الأدلة من الكتاب والسنة أمكنه أن يعرف الراجح من القولين"
(1)
.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن القاسم رحمه الله: "ومن المعلوم بالضرورة من الدين المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات علي الشرك لا يدخل الجنة، ولا يناله من رحمه الله، ويخلد في النار أبد الآبدين. وأن من مات لا يشرك بالله شيئًا يدخل الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحن، وأما الشرك الأصغر كيسير الرياء، وقول الرجل ما شاء الله وشئت، وما لي إلا الله وأنت ونحو ذلك فيطلق عليه الشرك كما في حديث "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". ونحو ذلك، ولكن لا يخرج بذلك من الملة بالكلية، ولا يستحق اسم الكفر على الإطلاق، فهو أخف من الأكبر، وقد يكون أكبر بحسب حال قائله ومقصده"
(2)
.
ويخشى على صاحب الشرك الأصغر أن يأتي بعد ذلك بسيئات تنضم إلي ذلك الشرك فيكبر شركه الأصغر حتى ترجح به سيئاته فيدخل النار.
قال شيخ الإسلام: "فإن قالها - يعني: لا إله إلا الله - على وجه الكمال المانع من الشرك الأصغر والأكبر؛ فهذا غير مصر علي ذنب أصلًا فيغفر له ويحرم علي النار.
وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجع بها ميزان
(1)
ضمن فتاوى بعثها الشيخ السعدي إلى الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز الحصين، وهذه الفتاوى مؤرخة بتاريخ 29/ 6/ 1374 هـ مخطوطة مستفاد من كتاب جهود ابن سعدي ص 188، 189.
(2)
حاشية علي كتاب التوحيد لابن قاسم ص 53.
الحسنات، كما في حديث البطاقة
(1)
. فيحرم على النار، لكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه.
وهذا خلاف من رجحت سيئاته حسناته، ومات، فإنه يستوجب النار، وإن كان قال: لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل قالها وأتى بعدها بسيئات رجحت على هذه الحسنات، فإنه في حال قوله لها مخلصا مستيقنا بها قلبه تكون حسناته راجحة، ولا يكون مصرا على سيئة، فإن مات قبل دخل الجنة.
ولكن بعد ذلك قد يأتي بسيئات راجحة، ولا يقولها بالإخلاص واليقين المانع من جميع السيئات ومن الشرك الأكبر والأصغر، بل يبقى معه الشرك الأصغر، ويأتي بعد ذلك بسيئات تنضم إلى ذلك الشرك فترجح سيئاته؛ فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين فيضعف بسبب ذلك قول: لا إله إلا الله؛ فيمتنع الإخلاص في القلب فيصير المتكلم بها كالهاذي، أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن يختبر بها من غير ذوق طعم ولا حلاوة.
فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل قد يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين الضعيف، وقد يقولونها من غير يقين وصدق تام، ويموتون
(1)
نص حديث البطاقة عن عَبْد الله بنَ عَمْرِو بنِ العَاص قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يقول: "إِنَّ الله عز وجل يستخلصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍ مَدّ البَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ: أتنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتبَتِي الْحافِظُونَ؟ فيقُولُ لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلك عُذْرٌ وحسنة؟ فيبهت الرجل فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً واحدة، لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ، فَتُخْرَجُ له بطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، فَيَقُولُ: أحضروه، فَيَقُولُ: يَا ربِّ مَا هَذِهِ البطَاقَةُ مَع هَذِهِ السِّجِلَّاتُ؟ فَيُقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. قالَ: فَتُوْضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالِبطَاقَةُ في كِفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَت البِطَاقَة، ولا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ الله شَيْءٌ". أخرجه أحمد (6994) وابن ماجه (4300).
علي ذلك ولهم سيئات كثيرة. فالذي قالها بيقين وصدق تام: إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.
والذين دخلوا النار قد فات فيهم أحد الشرطين، إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافي للسيئات أو لرجحانها علي الحسنات، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت علي حسناتهم فضعف لذلك صدقهم ويقينهم، فلم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين يمحو سيئاتهم، أو يرجح حسناتهم.
فقول السلف في قوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وقوله: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] هي قول: لا إله إلا الله كما قالوا وكما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قالها بصدق ويقين ومات علي ذلك، فإن هذا يكون قائمًا بالواجب، وتكون حسناته راجحة، والسيئة التي من جاء بها كبّ وجهه في النار هي الشرك، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، والموجبتان: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. ومن يشرك به شيئًا دخل النار.
وكثير من الناس، أو أكثرهم يدخل في الإيمان والتوحيد، ثم ينافق من جهة كسب الذنوب ورينها على القلوب، أو يدخل في نوع من الشرك والنفاق.
والشرك نوعان: أكبر، وأصغر. فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الشرك الأكبر وجبت له النار، ومن خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة علي ذنوبه دخل الجنة، فإن تلك الحسنات هي توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر، ومن خلص من الشرك الأكبر، ولكن كبر شركه الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار.
فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر، أو كان كثيرا أصغر، فالأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به، والخلاص من الأكبر ومن أكثر الأصغر