الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للمريد السالك والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه وعيب يرجو إصلاحه وعمل صالح يرجو قبوله واستقامة يرجو حصولها ودوامها وقرب الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها"
(1)
.
وبهذا يتبين أن الحب عبادة والخوف عبادة والرجاء عبادة والجمع بينهم واجب شرعًا، ولكل مقام من الثلاثة وظيفة يؤديها.
قال شيخ الإسلام: "فالمحبة تلقي العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده فهذا أصل عظيم، يجب على كل عبد أن ينتبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه"
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "إن الرجاء حاد يحدو به في سيره إلى الله، ويطيب له المسير ويحثه عليه، ويبعثه على ملازمته، فلولا الرجاء لما سار أحد، فإن الخوف وحده لا يحرك العبد وإنما يحركه الحب ويزعجه الخوف ويحدوه الرجاء"
(3)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "بالمحبة يكون امتثال الأمر وبالخوف يكون اجتناب النهي" (
4).
4 -
هل الأفضل للإنسان أن يُغلِّبَ جانب الخوف أو يُغلِّبَ جانب الرجاء
؟
قال الشيخ ابن عثيمين: "اختلف في ذلك:
فقيل: ينبغي أن يغلب جانب الخوف، ليحمله ذلك على اجتناب المعصية ثم
(1)
مدارج السالكين 2/ 43
(2)
مجموع الفتاوى 1/ 95.
(3)
مدارج السالكين 2/ 52.
(4)
مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 646. وانظر القول المفيد ط 1 - 2/ 164.
فعل الطاعة.
وقيل يغلب جانب الرجاء، ليكون متفائلا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل.
وقيل في فعل الطاعة: يغلب جانب الرجاء، فالذي من عليه بفعل هذه الطاعة سيمن عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء، فانتظر الإجابة، لأن الله يقول:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف، لأجل أن يمنعه منها ثم إذا خاف من العقوبة تاب.
وهذا أقرب شيء، ولكن ليس بذاك القرب الكامل؛ لأن الله يقول:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، أي: يخافون أن لا يقبل منهم، لكن قد يقال هذه الآية يعارضها أحاديث أخرى، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه:"أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني".
وقيل: في حال المرض يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف، فهذه أربعة أقوال.
وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا؛
(1)
فأيهما غلب هلك صاحبه، أي: يجعلهما كجناحي الطائر، والجناحان للطائر إذا لم يكونا متساوين سقط"
(2)
.
والقول بأن الخوف والرجاء ينبغي أن يستويان هو قول كثير من السلف وقد جاء في الأثر "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا".
قال المحدث العلجوني رحمه الله: "قال في اللآلئ: هذا مأثور بعض السلف، وهو كلام صحيح. وقال في المقاصد وتبعه في الدرر لا أصل في المرفوع وإنما
(1)
انظر قول الإمام أحمد رحمه الله في مسائل ابن هانئ 2/ 178، والآداب الشرعية 2/ 30.
(2)
مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 646،647. وانظر القول المفيد ط 1 - 2/ 164.
يؤثر عن بعض السلف فرواه البيهقي عن مطرف قال لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه بميزان ما كان بينهما خيط شعرة
(1)
. ورواه أيضًا عن شعبة قال: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه ما زاد خوفه على رجائه ولا رجاؤه على خوفه
(2)
. ومعناه صحيح"
(3)
.
قال ابن زيد في قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} قال: خوفًا وطمعًا قال: وليس ينبغي لأحدهما أن يفارق الآخر
(4)
.
وقال الشوكاني رحمه الله في قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} قال: "وفيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفًا وجلًا طامعًا في إجابة الله لدعائه فإنه إذا كان عند الدعاء جامعًا بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه"
(5)
.
وقال أبو علي الروذباري: "الخوف والرجاء هما كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه وإذا نقص واحد منهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا جميعا صار الطائر في حد الموت لذلك قيل لو وزن خوف المؤمن ورجاءه لاعتدلا"
(6)
.
وقال سهل بن عبد الله: "الرجاء والخوف زمانان على الإنسان فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر"
(7)
.
وبوب الإمام البخاري في كتابه الصحيح فقال: "باب: الرجاء مع الخوف"؛ ثم
(1)
انظر شعب الإيمان (1025)، الحلية 3/ 76.
(2)
انظر شعب الإيمان (1026).
(3)
كشف الخفاء 2/ 166 (2131).
(4)
الطبري 17/ 84.
(5)
فتح القدير للشوكاني 2/ 213.
(6)
شعب الإيمان للبيهقي 2/ 12 (1027) شرح العقيدة الطحاوية 456، مدارج السالكين 2/ 36، وانظر مثل هذا في شعب الإيمان 2/ 11 (1023).
(7)
القرطبي 10/ 279، 280.
ذكر حديث أبي هريرة رحمه الله: "أن الله خلق مائة رحمة؛ وفيه: فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار"
(1)
.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله "باب الرجاء مع الخوف" أي استحباب ذلك، فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف ولا في الخوف عن الرجاء لئلا يفضي في الأول إلى المكر وفي الثاني إلى القنوط وكل منهما مذموم"
(2)
.
وقال ابن تيمية: "وينبغي للمؤمن أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا فأيهما غلب هلك صاحبه ونص عليه الإمام أحمد لأن من غلب خوفه وقع في نوع من اليأس ومن غلب رجاؤه وقع في نوع من الأمن من مكر الله"
(3)
، نقل هذا القول ابن القيم
(4)
، واختاره السهسواني
(5)
.
وقال ابن رجب رحمه الله: "فأما الخوف والرجاء فأكثر السلف أنهما يستويان لا يرجح أحدهما على الآخر قاله مطرف والحسن، وأحمد وغيرهم"
(6)
.
وذكر أهل العلم أيضا أنهما يتساويان ولكن يغلب جانب الرجاء عند المرض، ومفارقة الدنيا وقد رجحه كثير من العلماء
(7)
.
(1)
صحيح البخاري (6469)
(2)
الفتح 11/ 301 ط - السلفية.
(3)
الفتاوى الكبرى 4/ 443 ط - دار المعرفة.
(4)
مدارج السالكين 1/ 554.
(5)
صيانة الإنسان ص 284 وانظر مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 683.
(6)
كتاب التخويف من النار 18. وانظر أيضًا مدارج السالكين 2/ 35، الباري شرح صحيح البخاري 11/ 302 ط. السلفية.
(7)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/ 456، وفتح الباري لابن حجر، 11/ 301 - 307. ومجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 647. والقول المفيد ط 1 - 2/ 165.
ودليل ذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قبل موته بثلاث أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحُسِن الظنَّ بالله عز وجل"
(1)
.
وقال إبراهيم بن يزيد النخعي: "كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحُسِن ظنَّه بربه"
(2)
.
وعن المعتمر بن سليمان قال: قال لي أبي حين حضرته الوفاة: "يا معتمر" حدثني بالرخص لعلي ألقى الله وأنا حسن الظن به"
(3)
.
وقال القرطبي رحمه الله: "قال بعض أهل العلم: ينبغي أن يغلب الخوف والرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلَّب الرجاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله"
(4)
.
وقال النووي رحمه الله: "اعلم أن المختار للعبد في حالة صحته أن يكون خائفًا راجيًا ويكون خوفه ورجاؤه سواء، وفي حال المرض يمحض الرجاء وقواعد الشرع من نصوص الكتاب والسنة وغير ذلك متظاهرة على ذلك"
(5)
.
وقال ابن مفلح رحمه الله: "وينبغي أن يكون رجاء المريض أكثر، وقطع به صاحب "النظم"
(6)
"
(7)
.
وقال ابن رجب: "ومنهم من رجح الخوف على الرجاء وهو يحكى عن
(1)
أخرجه مسلم (2877)، وأبو داود (3113)، وابن ماجه (4167).
(2)
شعب الإيمان للبيهقي 2/ 6، 7 (1007).
(3)
شعب الإيمان للبيهقي 2/ 7 (1008).
(4)
جامع أحكام القرآن للقرطبي 7/ 227.
(5)
رياض الصالحين 207، 208. وانظر مثله في روح المعاني للألوسي 15/ 100.
(6)
صاحب النظم هو محمد بن عبد القوي المرداوي (ت:699 هـ).
(7)
الآداب الشرعية 2/ 32.
الفضيل وأبي سليمان الدارني"
(1)
.
وقال ابن القيم: "فصلٌ: القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر، ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف، هذه طريقة أبي سليمان وغيره قال: ينبغى للقلب أن تكون الغالب عليه الخوف فإن غلب عليه الرجاء فسد. وقال غيره: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف وغلبة الحب، فالمحبة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنِّه وكرمه"
(2)
.
وقال ابن حجر رحمه الله: "وقيل الأَوْلَى أن يكون الخوف في الصحة أكثر وفي المرض عكسه، وأما عند الإشراف على الموت فاستحب قوم الاقتصار على الرجاء لما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله،
…
".
وقال آخرون لا يهمل جانب الخوف أصلًا بحيث يجزم أنه آمن ويؤيده ما أخرج الترمذي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له:"كيف تجدك؟ ". فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف"
(3)
.
(1)
التخويف من النار 25. وانظر أقوال الفضيل بن عياض وغيره في سير أعلام النبلاء 8/ 432، وشعب الإيمان للبيهقي 2/ 7 (1010).
(2)
مدارج السالكين 1/ 517.
(3)
فتح الباري 11/ 301 ط السلفية.
ومن هذه الأقوال يتبين أهمية كل واحد منها إذ لا غنى للعبد عنها وعلى المسلم أن ينظر فيما يصلح نفسه قال الحسن البصري: "نفوسكم مطاياكم فأصلحوا مطاياكم تُبلغكم إلى ربكم عز وجل".
قال ابن رجب رحمه الله مبينا كلام الحسن: "فالمراد بإصلاح المطايا الرفق بها وتعاهدها بما يصلحها من قوتها والرفق بها في سيرها فإذا أحس بها بتوقف في السير تعاهدها تارة بالتشويق وتارة بالتخويف حتى تسير. قال بعض السلف: الرجاء قائد، والخوف سائق، والنفس بينهما كالدابة الحرون
(1)
، فمتى فتر قائدها وقصّر سائقها وقفت فتحتاج إلى الرفق بها، والحدو لها حتى يطيب لها السير كما قال حادي الإبل بالوادي:
بشرها دليلها وقال لها
…
غدا ترين الطلح والجبالا
ولما كان الخوف كالسوط فمتى ألحّ بالضرب وبالسوط على الدابة تلفت فلا بدَّلها مع الضرب من حادي الرجاء يطيب لها السير بحدائه حتى تقطع. قال أبو زيد: "ما زلت أقود نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك"
(2)
.
* قال ابن القيم: "وللسالك نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف إلى سعة فضل ربه وكرمه وبره، ونظر يفتح عليه باب الرجاء، ولهذا قيل في حد الرجاء هو النظر إلى سعة رحمة الله"
(3)
.
وقال أيضًا: "والرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان ونوع غرور مذموم:
فالأولان: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه.
ورجل أذنب ذنوبًا ثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه
(1)
أي الصعبة التي وقفت ورفضت الانقياد.
(2)
المحجة في سير الدلجة ص 71، 72.
(3)
مدارج السالكين 2/ 36.
وجوده وحلمه وكرمه.
والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب"
(1)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والذي عندي في هذه المسألة أن هذا يختلف باختلاف الأحوال، وأنه إذا خاف إذا غلب جانب الخوف أن يقنط من رحمة الله وجب عليه أن يردّ ويقابل ذلك بجانب الرجاء، وإذا خاف إذا غلب جانب الرجاء أن يأمن من مكر الله فليرد ويغلب جانب الخوف، والإنسان في الحقيقة طبيب نفسه إذا كان قلبه حيًا، أما صاحب القلب الميت الذي لا يعالج قلبه ولا ينظر أحوال قلبه فهذا لا يهمه الأمر"
(2)
.
وقال الشيخ صالح آل الشيخ: "والتحقيق: أن ذلك على حالين:
الأولى: إذا كان العبد في حال الصحة والسلامة فإنه إما أن يكون مسددًا مسارعًا في الخيرات، فهذا ينبغي أن يتساوى في قلبه الخوف والرجاء، فيخاف ويرجو، لأنه من المسارعين في الخيرات. وإذا كان في حال الصحة والسلامة وكان من أهل العصيان، فالواجب عليه أن يغلب جانب الخوف حتى ينكفّ عن المعصية.
الحال الثانية: إذا كان في حال المرض المخوف فإنه يجب أن يُعظِّم جانب الرجاء على الخوف، فيقوم في قلبه الرجاء والخوف، ولكن يكون رجاؤه أعظم من خوفه، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام:"لا يمت أحدكم إلا وهو يُحسَن الظن بربه تعالى"، وذلك من جهة رجائه في الله جل جلاله.
ومن هنا اختلفت كلمات أهل العلم، فتجد بعضهم يقول: يجب أن يتساوى
(1)
مدارج السالكين 2/ 36.
(2)
فتاوى أركان الإسلام ص 59.