الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في كتابي "أحكام الجنائز وبدعها"، وهو الذي اختاره جماعة من العلماء كالقاضي عياض والإمام الجويني والقاضي حسين، فقالوا:"يحرم شد الرحل لغير المساجد الثلاثة، كقبور الصالحين والمواضع الفاضلة" ذكره المناوي في "الفيض".
فليس هو رأي ابن تيمية وحده، كما يظن بعض الجهلة، وإن كان له فضل الدعوة إليه، والانتصار له بالسنة، وأقوال السلف بما لا يعرف له مثيل، فجزاه الله عنا خير الجزاء"
(1)
.
*
حكم شد الرحل لزيارة قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم
-:
لا يجوز ذلك لحديث: "لا تشد الرحال إلا لثلاث مساجد
…
".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشَدُّ الرحال" بضم أوله بلفظ النفي، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها.
وكنّى بشد الرحال عن السفر، لأنَّهُ لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي
(2)
فهذه كلها داخلة في المعنى المذكور كما يدخل فيه وسائل السفر الحديثة من سيارات وطائرات وغيرها، ويدل عليه قول - في بعض طرقه -:"إنما يسافر"
(3)
.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "فدخل في النهي: شدُّها لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهيًا، وإنما أن يكون نفيًا، وجاء في رواية بصيغة النهي، فتعيّن أن يكون للنهي"
(4)
.
(1)
سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (997)(2/ 733 - 734).
(2)
انظر فتح الباري 3/ 64.
(3)
صحيح مسلم - بشرح النووي 9/ 168.
(4)
فتح المجيد ص 294.
والنهي جاء عن شد الرحال إليها والسفر من أجلها فذلك الذي صرحت الأحاديث به، أما زيارة القبور من دون شد الرحال إليها فقد اتفق العلماء علي أن ذلك جائز لما أخرجه مسلم في صحيحه:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"
(1)
. بل هو قربة إلى الله عز وجل ومأمور به لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة"
(2)
فالزيارة إذا كانت على الصفة الشرعية فإنها مشروعة
(3)
. أما ما يفعله بعض الناس من البدع الذميمة والجهالات الوخيمة حيث لا يقصد من الحج إلا زيارة قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ووضع الأيدي على شباكه
(4)
فهذا جهل وضلال.
وإليك أقوال الأئمة في النهي عن شد الرحال:
قال ابن تيمية: "وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي، فقال مالك: إن كان أراد القبر فلا يأته وإن أراد المسجد فليأته ثم ذكر الحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه"
(5)
.
وقال المناوي: "
…
ما نقل عن مالك من منع شد الرحل لمجرد زيارة القبر من غير إرادة إتيان المسجد للصلاة فيه"
(6)
.
وقال ابن بطة: "ومن البدع البناء على القبور وتجصيصها وشد الرحل إلى زيارتها"
(7)
.
وقال النووي: "واختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المطي إلى غير
(1)
أخرجه مسلم (977).
(2)
أخرجه مسلم وقد تقدم في باب: (زيارة القبور).
(3)
انظر باب: "زيارة القبور".
(4)
انظر للاستزادة حول السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين: الفتاوى 1/ 118.
(5)
مجموع الفتاوى 1/ 304.
(6)
شرح المناوي للجامع الصغير 6/ 140.
(7)
الإبانة الصغرى ص 92.
المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو حرام وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره"
(1)
.
وقال الحافظ ابن حجر: "قال الشيخ أبو محمد الجويني يحرم شد الرحال إلى غيرها عملًا بظاهر هذا الحديث وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة"
(2)
.
وقال ابن قدامة: "فإن سافر لزيارة القبر والمشاهد، فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخص لأنَّهُ منهي عن السفر إليها قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" متفق عليه"
(3)
.
وقال ابن الأثير: "هذا مثل قوله (لا تعمل المطي) وكنى به عن السير والنفر، والمراد: لا يقصد موضع من المواضع بنية العبادة والتقرب إلى الله تعالى إلا إلى هذه الأماكن الثلاثة تعظيمًا لشأنها وتشريفًا"
(4)
.
قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "فإن الصحابة والتابعين والأئمة لم يعرف عنهم نزاع في أن السفر إلى القبور وآثار الأنبياء داخل في النهي كالسفر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى وغيره
…
وأما السفر إلى مجرد زيارة القبور فما رأيت أحدا من علماء المسلمين قال إنه مستحب وإنما تنازعوا: هل هو منهي عنه، أو مباح؟ وهذا الإجماع والنزاع لم يتناول المعنى الذي أراده العلماء بقولهم يستحب زيارة قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولا إطلاق القول بأنه يستحب السفر لزيارة قبره كما هو موجود في
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم 9/ 106.
(2)
الفتح 3/ 65.
(3)
المغني 2/ 100.
(4)
جامع الأصول 9/ 283.
كلام كثير منهم، فإنهم يذكرون الحج ويقولون: يستحب للحاج أن يزور قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم
…
والمقصود أن كل من قصد السفر إلى المدينة فعليه أن يقصد السفر إلى المسجد والصلاة فيه كما إذا سافر إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى وإذا قصد السفر إلى القبر دون المسجد وجعل المسجد لا يسافر إليه إلا الأجل القبر، واعتقد أن السفر إليه تبعا للقبر كما يسافر إلى قبور سائر الصالحين ويصلي في مساجد هناك، فمن جعل السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبره كالسفر إلى قبور هؤلاء والمساجد التي عندهم فقد خالف إجماع المسلمين، وخرج عن شريعة سيد المرسلين وما سنه لأمته الغر الميامين بخلاف الذي قصد المسجد"
(1)
.
وقال علامة حضرموت ومفتيها السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف: "نص إمام الحرمين - ومثله القاضي حسين - على تحريم السفر لزيارة القبور، واختاره القاضي عياض بن موسى بن عياش في إكماله وهو من أفضل متأخري المالكية. وقام وقعد في ذلك الشيخ الإمام ابن تيمية، وخَطَّأهُ قومٌ وصَوَّبَهُ آخرون، ومهما يكن من الأمر فَلْيَسَعَهُ ما وسع الجويني والقاضيين حسين وعياضًا، ولكنهم أفردوه باللوم! والقولُ واحدٌ. وقال مالك بن أنس: من نَذر المشي إلى مساجد من المساجد ليصلي فيه كرهتُ ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة". وقال ابن سريج - من كبار أصحاب الشافعي - إن الزيارة قربة تلزم بالنذر. والخطب يسير لم يُوَسِّعْهُ إلا الحسد والتعصب، وإلا فالتثريب في موضع الاختلاف ممنوع"
(2)
.
قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني: "والحديث دليلٌ على فضيلة المساجد هذه ودلَّ بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد غير الثلاثة كزيارة الصالحين أحياءً وأمواتًا لقصد التقرب ولقصد المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها
(1)
الرد على الأخنائي 13، 15، 18.
(2)
إدام القوت ص 584.
والصلاة فيها" اهـ
(1)
.
وقال السيد نعمان بن محمود الآلوسي بعد أن انتصر لرأي ابن تيمية ونهاية الكلام في هذا المقام: "أن شيخ الإسلام لم ينفرد بهذا القول الذي شُنِّع به عليه، بل ذهب إليه غيره من الأئمة الأعلام"
(2)
.
وقال الإمام محمد صديق حسن القنوجي: "وقد ذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه والقاضي عياض من أئمة المالكية إلى منع السفر لزيارة القبور وكرهوها، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، والحافظ ابن قيم الجوزية، وقبلهما ابن عقيل وابن بطة من الحنابلة، وإليه ذهب إمام الحرمين أبو محمد الجويني.
وتغليط الغزالي إياه غلط لعدم تفرده بذلك، وكذلك القاضي حسين من الشافعية، وجماعة من الحنفية المتأخرة، الكائنة في هذه المائة الثالثة عشر من الهجرة الشريفة.
وقد حقق بعض أهل العلم هذه المسألة في كتابه جلاء العينين في المحاكمة بين أحمدين وذهب إلى ما هو الصواب فيها إن شاء اللهُ تعالى.
وحققها أيضًا صاحب مسك الختام في كتب ورسائل عديدة منها عون الباري والسراج الوهاج ورحلة الصديق إلى البيت العتيق وغيرها، وهي مذكورة أيضًا في النهج المقبول والبنيان المرصوص ونحوهما راجع ذلك.
وقد ذب جماعة من المحققين عن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، منهم الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي ومن تبعه من علماء السنة من أهل الهند وصاحب الصارم المنكي، وصاحب القول الجلي، وغيرهما.
ولا شكَّ في أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ومن تبعه فيه ليس هو مذهبه خاصة، بل
(1)
سبل السلام 3/ 394.
(2)
جلاء العينين ص 518.
قال به قبله وبعده جماعة من أهل العلم، فالطعن عليه رحمه الله خاصة في هذه المسألة وما في معناها، طعن لا يصيب إلا صاحبه، وسب لا يرجع إلا إلى قائله، وكيف يجوز هذا في شأنه؟! وإن هذا لا يجوز في حق أحد من المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم:: "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر". و"من قال لأخيه كافرا فقد باء به إن لم يكن كذلك"
(1)
.
وقال الألباني رحمه الله: "وفي هذه الأحاديث تحريم السفر إلى موضع من المواضع المباركة، مثل مقابر الأنبياء والصالحين، وهي وإن كانت بلفظ النفي "لا تُشَدَّ" فالمراد النهي كما قال الحافظ، على وزن قوله تعالى {الْفَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وهو كما قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به"
…
قلت
(2)
: ومما يشهد لكون النفي هنا بمعنى النهي رواية لمسلم في الحديث الثاني: "لا تشدوا"
(3)
.
ثم ذكر أقوال من تساهل في السفر لغير المساجد الثلاثة ورد عليهم مفندًا أقوالهم في كتابه النفيس أحكام الجنائز
(4)
.
ومما قاله رحمه الله: "والخلاصة: إن ما ذهب إليه أبو محمد الجويني الشافعي وغيره من تحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة من المواضع الفاضلة هو الذي يجب المصير إليه، فلا جرم اختاره كبار العلماء المحققين المعروفين باستقلالهم في الفهم، وتعمقهم في الفقه عن الله ورسوله أمثال شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهم الله تعالى - فإن لهم البحوث الكثيرة النافعة في هذه المسألة الهامة، ومن هؤلاء الأفاضل الشيخ ولي الله الدهلوي، ومن كلامه في ذلك ما قال في
(1)
الدين الخالص 3/ 590، 591. وانظر أيضًا شرحه لصحيح مسلم 5/ 113.
(2)
القائل هو الشيخ الألباني رحمه الله.
(3)
أحكام الجنائز ص 226، 227.
(4)
من ص 227 إلى ص 231.
الحجة البالغة 1/ 192: "كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى، فسَدَّ صلى الله عليه وسلم الفسادَ، لئلا يلحق غير الشعائر بالشعائر، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله، والحق عندي أن القبر، ومحل عبادة ولي من الأولياء والطور كل ذلك سواء في النهي".
ومما يحسن التنبيه عليه في خاتمة هذا البحث أنه لا يدخل في النهي السفر للتجارة وطلب العلم، فإن السفر إنما هو لطلب تلك الحاجة حيث كانت لا لخصوص المكان، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية"
(1)
"
(2)
.
قال رحمه الله: "وأما شد الرحال لزيارة القبور فلا يجوز، وإنما يشرع لزيارة المساجد الثلاث خاصة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" متفق على صحته. وإذا زار المسلم مسجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم دخل في ذلك علي سبيل التبعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه وقبور الشهداء وأهل البقيع وزيارة مسجد قباء من دون شد الرحل، فلا يسافر لأجل الزيارة ولكن إذا كان في المدينة شرع له زيارة قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وزيارة البقيع والشهداء ومسجد قباء.
أما شد الرحال من بعيد لأجل الزيارة فقط فهذا لا يجوز علي الصحيح من قولي العلماء"
(3)
.
(1)
في الفتاوى 2/ 186.
(2)
أحكام الجنائز ص 122 - 123. 4/ 315. 27/ 20 - 21. مجموعة الرسائل الكبرى ابن تيمية 2/ 395. الرد على البكري ص 233. الإبداع علي محفوظ ص 124، 219، 384. السنن والمبتدعات الشقيري ص 166. مناسك الحج والعمرة الألباني ص 60. أحكام الجنائز الألباني ص 262 رقم 173. السلسلة الضعيفة للألباني 1/ 285.
(3)
مجموع الفتاوى 754 - 755.