الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
125 - الدهر
*
يتعلق الكلام هنا بسب الدهر، والسب: الشتم، والتقبيح، والذم، وما أشبه ذلك، والدهر: الزمان والوقت
(1)
. والمراد بسب الدهر نسبة ما يصيبهم من المكاره التي تنزل بهم إليه، وشتمه؛ وسبب ذلك اعتقادهم أنه الطارق بالنوائب، فكانوا يقولون: أهلكنا الدهر، وأصابتنا قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وبؤسًا للدهر، وتبًا له ونحو ذلك
(2)
.
ويشبهه في وقتنا الحاضر قولهم: تبًا لهذا الزمان، وأهلكنا هذا الزمان، ولعن الله اليوم أو الساعة التي جرى فيها كذا وكذا، ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا
(3)
.
* التمهيد لابن عبد البر 18/ 151، 152. الاستذكار لابن عبد البر 27/ 303. سنن البيهقي 3/ 365، شرح السنة 2/ 375، أحكام القرآن 14/ 237، 16/ 171. فتاوى ابن تيمية 2/ 493. الآداب الشرعية لابن مفلح 3/ 421، فتح الباري 8/ 438، عمدة القاري 16/ 9، تيسير العزيز الحميد 613. فتح المجيد ص 501. حاشية كتاب التوحيد لابن قاسم ص 311. مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 823. والقول المفيد ط 1 - 2/ 351 ط 2 - 2/ 422. القول السديد لابن سعدي المجموعة 3/ 43. فتاوى اللجنة الدائمة 2/ 15. مجموع الفتاوى لابن باز 2/ 484.الدين الخالص لصديق حسن القنوجي 4/ 543. مجموع الفتاوى لابن عثيمين 1/ 163، 197. عقيدة الإمام ابن عبد البر للغصن ص 187. شرح مسائل الجاهلية ص 65. منهج ابن حجر في العقيدة ص 1085. ابن رجب وأثره في توضيح العقيدة للغفيلي ص 496. شرح مسائل الجاهلية للسعيد 1/ 476. منهج الشافعي في إثبات العقيدة ص 343.
(1)
مختار الصحاح (د هـ ر).
(2)
غريب الحديث لأبي عبيد 2/ 146، الفائق في غريب الحديث 1/ 419 - 420، معالم السنن 8/ 118، شأن الدعاء للخطابي 108، وانظر المسائل التي خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية للسعيد 1/ 476.
(3)
مجموع الفتاوى 2/ 493.
* الدليل من الكتاب: قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24].
* الدليل من السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم، يقول: يا خيبة الدهر. فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتها"
(1)
.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، أُقَلِّبُ الليل والنهار"
(2)
، وفي رواية:"لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر".
وقد أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} فيسبون الدهر، فقال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أُقَلِّبُ الليل والنهار"
(3)
.
قوله: "وأنا الدهر" قال الخطابي: "معناه: أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر، فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها، وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور"
(4)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: "قوله في الحديث "بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار" يبين أنه ليس المراد به أنه الزمان فإنه قد أخبر أنه يقلب الليل والنهار والزمان هو الليل
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه (2246).
(2)
أخرجه البخاري (4826)، ومسلم (2246).
(3)
أخرجه ابن جرير في تفسيره 25/ 152.
(4)
فتح الباري 8/ 575.
والنهار فدل نفس الحديث على أنه هو يقلب الزمان ويصرِّفه كما دل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} إلى قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 43، 44] "
(1)
.
وقال رحمه الله: "وأصل هذا الخبر أنه ورد على سبب وهو أن الجاهلية كانت تقول أصابني الدهر في مالي بكذا ونالتني قوارع الدهر ومصائبه فيضيفون كل حادث يحدث بما هو جار بقضاء الله وقدره وخلقه وتقديره من مرض أو صحة أو غنى أو فقر أو حياة أو موت إلى الدهر ويقولون لعن الله هذا الدهر والزمان ولذلك قال قائلهم:
أمن المنون وريبه تتوجع
…
والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]. أي ريب الدهر وحوادثه وقال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. فأخبر عنهم بما كانوا عليه من نسبة أقدار الله وأفعاله إلى الدهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر" أي: إذا أصابتكم المصائب لا تنسبوها إليه فإن الله هو الذي أصابكم بها لا الدهر وأنكم إذا سببتم الدهر وفاعل ذلك ليس هو الدهر.
وقال أبو بكر الخلال سألت إبراهيم الحربي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر"
(2)
. وعن: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"
(3)
قال كانت الجاهلية تقول: الدهر هو الليل والنهار يقولون الليل والنهار فعل بنا كذا فقال الله تعالى أنا أفعل ليس الدهر"
(4)
.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله: "ولهذا قال في الحديث: "وأنا الدهر بيدي
(1)
مجموع الفتاوى 2/ 491.
(2)
أخرجه البخاري (2246)، ومسلم (6181).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/ 125،126.
الأمر أُقَلِّبُ الليل والنهار"، وفي رواية لأحمد: "بيدي الليل والنهار أُجِدْهُ وأبليه وأذهب بالملوك"، وفي رواية: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك"، قال الحافظ: وسنده صحيح. فقد تبين بهذا خطأ ابن حزم في عده الدهر من أسماء الله الحسنى، وهذ غلط فاحش، ولو كان كذلك لكان الذين قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] مصيبين"
(1)
.
* وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يصف الدهر بالشدة أو الغلظة ويقصد الخبر المحض دون اللوم، فهذا جائز مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم، أو برده ما أشبه ذلك، لأن الأعمال بالنيات ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام:{هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]
(2)
. ومنه أيضا قوله تعالى {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16] ويدخل فيه أيضا قول القائل: عام الحزن وعام المجاعة لأنه من باب الإخبار.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم: "وأما وصف الدهر بالشدة والرخاء والخير والشر فلا بأس بذلك كقوله سبحانه: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}، وقوله: {سَبْعٌ شِدَادٌ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه"، والأدلة على ذلك كثيرة جدًّا"
(3)
.
الثاني: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل، كأن
(1)
تيسير العزيز الحميد 617.
(2)
مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 823. وانظر القول المفيد ط 1 - 2/ 351. وفتح المجيد ص 504.
(3)
فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 1/ 172.
يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر، فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقًا لأنه نسب الحوادث إلى غير الله وكل من اعتقد أن مع الله خالقًا فهو كافر، كما أن من اعتقد أن مع الله إلهًا يستحق أن يعبد، فإنه كافر"
(1)
.
الثالث: أن يسب الدهر لا لاعتقاد أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده، فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين، لأن حقيقة سبه تعود إلى الله سبحانه، لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر ويكون فيه ما أراد من خير أو شر، فليس الدهر فاعلًا، وليس هذا السبب يُكفِّر، لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة
(2)
. ويدخل في ذلك من الأمثلة قولهم: هذا يوم أسود على وجه التضجر ويوم أغبر أو قولهم هذا يوم شؤم وغير ذلك من الأمثلة.
قال ابن حجر: "قال المحققون: من نسب شيئًا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكنه يكره له ذلك، لشبهه بأهل الكفر في الإطلاق. وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم: مطرنا بكذا"
(3)
.
وقال أيضا نقلًا عن الشيخ أبي محمد بن أبي حمزة: "لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها، فمن سبّ نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث، حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك. وأما الحوادث فمنها ما يجري بواسطة العاقل المكلف فهذا
(1)
مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 823. وانظر القول المفيد ط 1 - 2/ 351.
(2)
مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 823. وانظر القول المفيد ط 1 - 2/ 351.
(3)
فتح الباري 10/ 566.
يضاف شرعا ولغة إلى الذي جرى على يديه، ويضاف إلى الله تعالى لكونه بتقديره، فأفعال العباد من أكسابهم، ولهذا ترتّبت عليها الأحكام، وفي الابتداء خلق الله. ومنها ما يجري بغير وساطة، فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس للّيل والنهار فعل ولا تأثير لا لغة ولا عقلًا ولا شرعًا، وهو المعنى في هذا الحديث، ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل"
(1)
.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله: (والحديث صريح في النهي عن سب الدهر مطلقًا، سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك، كما يقع كثيرًا ممن يعتقد الإسلام.
كقول المعتز:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا
…
وأنت والد سوء تأكل الولدا
وقول أبي الطيب:
قبحًا لوجهك يا زمان كأنه
…
وجه له من كل قبح برقع
وقال الحريري:
ولا تأمن الدهر الخؤون ومكره
…
فكم خامل أخنى عليه ونابه
ونحو هذا كثير. وكل هذا داخل في الحديث"
(2)
.
ومن ذلك أيضًا قول الأعشى بكر:
يا دهر قد أكثرت فجعتنا
…
بسراتنا ووقرت في العظم
وسلبتنا ما ليس تعقبنا
…
يا دهر ما أنصفتنا في الحكم
(3)
(1)
فتح الباري 10/ 566.
(2)
تيسير العزيز الحميد ص 615، 616.
(3)
ملحقات ديوان الأعشى ص 258، غريب الحديث لأبي عبيد 2/ 146. وانظر: المسائل التي خالف فيها الرسول أهل الجاهلية 1/ 478.
قال ابن القيم رحمه الله: "وفي هذا ثلاث مفاسد عظيمة:
أحدها: سبه من ليس أهلًا للسب، فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله منقاد لأمره، مذلل لتسخيره، فسابه أولى بالذم والسب منه.
الثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق الضرر، وأعطى من لا يستحق العطاء، ورفع من لا يستحق الرفعة، وحرم من لا يستحق الحرمان. وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جدًّا. وكثير من الجهال يصرح بلعنه وتقبيحه.
الثالثة: أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السموات والأرض، وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه، وفي حقيقة الأمر، فرب الدهر هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل، والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبتهم الدهر مسبة لله عز وجل، ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى
…
فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من إحداهما: إما مسبة الله أو الشرك به، فإنه إن اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك، وهو يسب من فعله فهو يسب الله تعالى"
(1)
.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم: "وأما سبّ الدهر فهو الذي وردت الأدلة بالنهي عنه والتحذير منه وتحريمه"
(2)
.
* فائدة: أشار ابن أبي حمزة إلى أن النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى، وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلق، إلا ما أذن الشرع فيه؛ لأن العلة واحدة.
(1)
زاد المعاد 2/ 354، 355، وانظر: تيسير العزيز الحميد ص 616.
(2)
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 1/ 172.