الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
110 - حق الله على العباد وحق العباد على الله
جاء في الحديث المشهور عن معاذ بن جبل قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس قال:"لا تبشرهم فيتكلوا"
(1)
.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله: "وحق الله على العباد، هو ما يستحقه عليهم ويجعله متحتمًا، وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده، ووعده حق، إن الله لا يخلف الميعاد"
(2)
.
وقال شارح الطحاوية: "فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئًا كما يكون للمخلوق على المخلوق فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم"
(3)
.
* منهاج السنة النبوية 1/ 451، 454، 467، 469. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 294، 814، 819. الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية للإمام ابن القيم شرح محمد خليل هراس 2/ 97، 98. فتح الباري 1/ 65 - 3/ 229. بدائع الفوائد 2/ 390. تيسير العزيز الحميد ص 65. فتح المجيد ص 57. حاشية كتاب التوحيد لابن قاسم 20. مجموع فتاوى ابن عثيمين 9/ 33. الدرر السنية 1/ 186، وانظر القول المفيد ط 1 - 1/ 41 ط 2 - 1/ 53. الدرر السنية 1/ 186. منهج ابن حجر في العقيدة ص 474.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
تيسر العزيز الحميد ص 65.
(3)
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 261.
وهذا حق أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم واختلفوا هل أوجبه على نفسه أم لم يوجبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعد الله الصادق وتنازعوا هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين، ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] وبقوله في الحديث الصحيح: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا"
…
وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئًا؟ ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال إنه كتب على نفسه الرحمة وحرم الظلم على نفسه لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئًا كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح، ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على من استأجره فهو جاهل في ذلك"
(1)
.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: "فمعناه أن لا يرى لنفسه حقًّا على الله لأجل عمله، فإن صحبته مع الله بالعبودية والفقر المحض والذل والانكسار فمتى رأى لنفسه عليه حقًّا فسدت الصحبة وصارت معلولة وخيف منها المقت، ولا ينافي هذا ما أحقه سبحانه على نفسه من إثابة عابديه وإكرامهم، فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره وجوده وإحسانه لا باستحقاق العبيد وأنهم أوجبوه
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 776، 777.
عليه بأعمالهم. فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي هو مفترق الطرق، والناس فيه ثلاث فرق:
فرقة رأت أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقًّا فقالت: لا يجب على الله شيء البتة، وأنكرت وجوب ما أوجب على نفسه.
وفرقة رأت أنه سبحانه أوجب على نفسه أمورًا لعبدهِ فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله، وأن أعماله كانت سببًا لهذا الإيجاب، والفرقتان غالطتان.
والفرقة الثالثة أهل الهدى والصواب قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحًا ولا يدخل أحدًا عمله الجنة أبدًا، ولا ينجيه من النار، والله تعالى بفضله وكرمه ومحض جوده وإحسانه أكد إحسانه وجوده وبره بأن أوجب لعبده عليه سبحانه حقا بمقتضى الوعد، فإن وعد الكريم إيجاب ولو بعسى ولعل.
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: "عسى من الله واجب ووعد اللئيم خلف ولو اقترن به العهد والحلف".
والمقصود أن عدم رؤية العبد لنفسه حقًّا على الله لا ينافي ما أوجبه الله على نفسه وجعله حقًّا لعبده قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، يا معاذ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ ": قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار"، فالرب سبحانه ما لأحد عليه حق ولا يضيع لديه سعي كما قيل:
ما للعباد عليه حق واجب
…
كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا
…
فبفضله وهو الكريم الواسع"
(1)
(1)
مدارج السالكين 2/ 338، 339.
وقال ابن القيم في نونيّته:
"ما للعباد عليه حق واجب .. . هو أوجب الأجر العظيم الشان
كلّا ولا عمل لديه ضائع
…
إن كان بالإخلاص والإحسان
إن عُذّبوا فبعدله أو نُعِّموا
…
فبفضلِهِ والحمد للمنان"
(1)
قال الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله في شرحه النونية: "وفي هذه الأبيات الثلاثة بيان لمذهب أهل السنة في أنه ليس للعباد حق واجب على الله، وأنه مهما يكن من حق فهو الذي أحقه وأوجبه، ولذلك لا يضيع عنده عمل قام على الإخلاص والمتابعة؛ فإنهما الشرطان الأساسيان لقبول الأعمال فإذا توفرا في عمل ما كان مقبولا بمقتضى وعده سبحانه وإيجابه، واستحق صاحبه الأجر المقدر له، فهو إن عذب العباد فبعدله، فإنه لا يجزي على السيئة إلا سيئة مثلها، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة، وإن أنعم وأثاب فبفضله، فله الحمد أولًا وآخرًا"
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كون المطيع يستحق الجزاء، هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك، ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. ولكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو
(1)
الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية شرح الدكتور محمد خليل هراس 2/ 9.
(2)
شرح القصيدة النونية للهراس 2/ 98.
الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية أتباع "جهم" والقدرية النافية"
(1)
.
وقال رحمه الله: "فمن قال ليس للمخلوق على الخالق حق يسأل به كما روى أن الله تعالى قال لداود: "وأي حق لآبائك عليّ" فهو صحيح إذا أريد بذلك أنه ليس للمخلوق عليه حق بالقياس والاعتبار على خلقه كما يجب للمخلوق على المخلوق وهذا كما يظنه جهال العباد من أن لهم على الله سبحانه حقا بعبادتهم، وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حق من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق كالذين يخدمون ملوكهم وملاكهم فيجلبون لهم منفعة ويدفعون عنهم مضرة ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه ألم أفعل كذا يمن عليه بما يفعله معه وإن لم يقله بلسانه كان ذلك في نفسه، وتخيل مثل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه ولهذا بين سبحانه أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه وأن الله غني عن الخلق كما في قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]، وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46] "
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: "أخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسه الرحمة وهذا إيجاب منه على نفسه فهو الموجب وهو متعلق الإيجاب الذي أوجبه، فأوجب بنفسه على نفسه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بما يوضحه كل الإيضاح ويكشف حقيقته بقوله في الحديث الصحيح: "لما قضى الله الخلق بيده على نفسه في كتاب
(1)
مستفاد من تيسير العزيز الحميد ص 65، 66، وانظر منهاج السنة لابن تيمية 5/ 300 - 360.
(2)
التوسل والوسيلة ص 214.
فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي" - وفي لفظ -: "سبقت غضبي"
(1)
. فتأمل كيف أكد هذا الطلب والإيجاب بذكر فعل الكتاب وصفة اليد ومحل الكتابة وأنه كتاب وذكر مستقر الكتاب، وأنه عنده فوق العرش فهذا إيجاب مؤكد بأنواع من التأكيد وهو إيجاب منه على نفسه ومنه قوله تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] فهذا حق أحقه على نفسه فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ الحق ولفظ على، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لمعاذ:"ما حق الله على عباده؟ " قلت: الله ورسوله أعلم قال: "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار"
(2)
.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في غير حديث: من فعل كذا وكذا كان حقًّا على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد، فهذا الحق هو الذي أحقه على نفسه.
ومنه الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إلى الصلاة: "أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك"
(3)
فهذا حق للسائلين عليه هو أحقه على نفسه لا أنهم هم أوجبوه ولا أحقوه بل أحق على نفسه أن يجيب من سأله، كما أحق على نفسه في حديث معاذ أن لا يعذب من عبده، فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم - والحقان هو الذي أحقهما وأوجبهما لا السائلون ولا العابدون"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (7404)، ومسلم (2751).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه ابن ماجه (778) والإمام أحمد (11173).
(4)
بدائع الفوائد 2/ 161. وانظر للاستزادة شفاء العليل 1/ 114، إغاثة اللهفان 1/ 88.