الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوزن، بدليل اللفظ الثاني للحديث نفسه، من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه، والاستيفاء: هو الكيل أو الوزن كما تقدم الاستدلال على ذلك ..
الدليل الثاني:
(ح-116) ما رواه البخاري من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله.
أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافا - يعني الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم
(1)
.
وجه الاستدلال من هذا الحديث كوجه الاستدلال من الحديث السابق، بل تضمن زيادة أخرى، وهو النص على أن الطعام كان جزافًا، أي ليس مكيلًا، ولا موزونًا، فإذا كان الجزاف لا يجوز بيعه حتى ينقله المشتري فغيره من باب أولى.
وأجيب:
بأنه سبق مناقشة هذا الحديث، وبيان أن المنع من بيعه ليس بسبب كونه طعامًا، ولا بسبب كونه جزافًا، وإنما الحديث نص في النهي عن تلقي السلع، وأن الغاية في النهي حتى يبلغ به سوق الطعام، والله أعلم.
الراجح من الخلاف:
هذه المسألة من مسائل المعاملات الشائكة، والأدلة فيها متقابلة، والترجيح في مثلها قد يتمكن منه الباحث، وقد لا يسعه إلا التوقف فيها، ويترك الترجيح للقارئ الكريم، وقد قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى عند الكلام على هذه
(1)
صحيح البخاري (2137)، ورواه مسلم (1527).
المسألة، قال:«ولغموض مأخذ هذه المسائل كثر تنازع الفقهاء فيها» فإذا كانت غامضة بحق الفقهاء المتقدمين، مع رسوخهم في العلم، فما بالك بطالب العلم في هذا العصر، والذي بضاعته مزجاة، وهمته في فتور، وينازعه كثرة الصوارف، وقلة التفرغ، مع ضعف التوجه والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
وإذا كان لا بد من الترجيح فلن يكون إلا مجرد ميل قلبي لهذا القول أو ذاك، وسيكون الترجيح بين مذهب الشافعية ومذهب الحنابلة فهما أقوى قولين في المسألة، ومما يعين على معرفة القول الراجح تلمس العلة من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه.
فهل العلة في النهي عن بيع ما لم يقبض هو كون العقد الأول لم يتم، حيث بقي من أحكامه التسليم، فلا يرد عليه عقد آخر قبل انبرامه، فالمشتري عاجز عن تسليم المبيع إلى المشتري الجديد، لأن البائع قد يسلمه إياه، وقد لا يسلمه إياه، لاسيما إذا رأى البائع أن المشتري قد ربح فيه، فيسعى في رد البيع إما بجحد أو باحتيال في الفسخ، وعلى هذا تجوز التولية في المبيع قبل قبضه، وهو مخرج من جواز بيع الدين، ويجوز التصرف فيه بغير البيع،، ويجوز بيعه لبائعه والشركة فيه، وإذا تعين ملك إنسان في موروث، أو وصية، أو غنيمة لم يعتبر لصحة تصرفه قبضه بلا خلاف.
أو نقول: إن التصرف تبع للضمان، فما كان من ضمانه كان له أن يتصرف فيه، وأن يربح فيه، ولو لم يقبضه، وما كان من ضمان البائع، فلا يجوز له التصرف فيه حتى يقبضه، وحتى لا يتوالى ضمانان، وبالتالي نخص النهي عن بيع ما لم يقبض بالشيء الذي يحتاج فيه إلى استيفاء، وأما الشيء الذي لا يحتاج إلى استيفاء فلا مانع من بيعه قبل قبضه كما لو اشترى صبرة من الطعام.
أو نقول: إن العلة هي خوف فوات المبيع، فما كان منقولًا عرضة للهلاك،
وإذا هلك بطل البيع الذي كان أساسًا لذلك التصرف، فكان من الاحتياط الانتظار إلى حين القبض صونًا للعقود من البطلان، وإبعادًا للتصرفات من الإلغاء، بخلاف العقار فإنه لا يتعرض غالبًا للهلاك، فيجوز له بيعه قبل قبضه.
الذي أميل إليه بعض الشيء أن مذهب الشافعية أحوط، وهو أن الإنسان لا يبيع شيئًا ملكه بالبيع حتى يقبضه، ولأنه إذا باعه قبل قبضه كان العلماء متنازعين في صحة البيع، وإذا باعه بعد القبض كان الجميع متفقين على صحة البيع، وكوننا نفعل فعلًا يتفق عليه الفقهاء خير لنا من أن نفعل فعلًا يختلف الفقهاء في صحته، وإذا كان الترجيح لن يأخذ مسلك الاحتياط، وإنما مسلك أن الأصل في المعاملات الصحة، والحل إلا بدليل ظاهر أجد أن القول الذي ترجحه ظاهر الأدلة على غيره، هو القول بأن النهي خاص في بيع الطعام الذي يحتاج إلى توفية، من كيل، أو وزن، ويقاس عليه ما احتاج إلى عد، أو ذرع، والله أعلم.
* * *