الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى
في تشريح الجثة
[ن-13] صدرت فتوى من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في حكم التشريح، قالت فيه: «الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: التشريح لغرض التحقق من دعوى جنائية.
الثاني: التشريح لغرض التحقق من أمراض وبائية؛ لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها.
الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلمًا، وتعليمًا.
وبعد تداول الرأي والمناقشة، ودراسة البحث المقدم من اللجنة - يعني اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - قرر المجلس مايلي:
بالنسبة للقسمين الأول، والثاني، فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقًا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن، والعدل، ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة، مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وأن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين، سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا.
وأما بالنسبة للقسم الثالث، وهو التشريح للغرض التعليمي، فنظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين، لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني
عن تشريح الإنسان، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العملي في مجالات الطب المختلفة، فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة إلا أنه نظرًا إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتًا، كعنايتها بكرامته حيًا.
وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كسر عظم الميت ككسره حيًا.
ونظرًا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسير الحصول على جثث أموات غير معصومة، فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث، وعدم التعرض لجثث أموات معصومين، والحال ما ذكر، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم»
(1)
.
وقد ذكر الفقهاء المتقدمون أسبابًا لبقر بطن الآدمي الميت مما يستأنس به على جواز التشريح للحاجة.
جاء في كتاب رد المحتار على الدر المختار: «ولو بلع مال غيره، ومات، هل يشق أم لا؟ قولان، الأول: نعم»
(2)
.
وجاء في الخرشي: «من ابتلع مالًا له، أو لغيره، ثم مات، فإنه يشق جوفه، فيخرج منه، إن كان له قدر وبال، بأن يكون نصابًا، وهل نصاب الزكاة أو السرقة، قولان.
وقال ابن حبيب بعدم البَقْر، قال شيخنا: ينبغي أن يكون الخلاف إذا ابتلعه
(1)
فتاوى إسلامية (2/ 60 - 61).
(2)
رد المحتار على الدر المختار (1/ 602).
لقصد صحيح، كخوف عليه، أو لمداواة، وأما إن قصد قصدًا مذمومًا، كحرمان وارثه، فلا ينبغي أن يختلف في وجوب البقر؛ لأنه كالغاصب»
(1)
.
وجاء في المهذب: «وإن ابتلع الميت جوهرة لغيره، وطالب بها صاحبها، شق جوفه، وردت الجوهرة»
(2)
.
وقال ابن قدامة: «وإن بلع الميت مالًا لم يخل من أن يكون له، أو لغيره فإن كان له لم يشق بطنه; لأنه استهلكه في حياته ويحتمل أنه إن كان يسيرًا ترك وإن كثرت قيمته شق بطنه وأخرج; لأن فيه حفظ المال عن الضياع ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله بمرضه. وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذنه فهو كماله; لأن صاحبه أذن في إتلافه. وإن بلعه غصبا ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشق بطنه ويغرم من تركته; لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجو حياته فمن أجل المال أولى.
والثاني: يشق إن كان كثيرًا; لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه وعن الميت بإبراء ذمته وعن الورثة بحفظ التركة لهم»
(3)
.
وقال الشيخ بكر أبو زيد: «أما تشريح الميت لكشف الجريمة، فإنه متى استدعى الحال لخفاء في الجريمة، وسبب الوفاة باعتداء، وهل هذه الآلة المعتدى بها قاتلة منها، فمات بسببها أو لا؟ فإنه يتخرج القول بالجواز صيانة للحكم عن الخطأ، وصيانة لحق الميت الآيل إلى وارثه، وصيانة لحق الجماعة من داء الاعتداء والاغتيال، وحقنًا لدم المتهم من وجه، فتحقيق هذه المصالح
(1)
الخرشي (2/ 145).
(2)
المهذب (1/ 138).
(3)
المغني (2/ 216).
غلبت ما يحيط بالتشريح من هتك لحرمة الميت، وقاعدة الشريعة: ارتكاب أخف الضررين، والضرورات تبيح المحظورات، والله أعلم.
وهذا الجواز عند من قال به في ضوء الشروط الآتية:
الأول: أن يكون في الجناية متهم.
الثاني: أن يكون علم التشريح لكشف الجريمة بلغ إلى درجة تفيد نتيجة الدليل، كالشأن في اكتشاف تزوير التوقيعات، والخطوط.
الثالث: قيام الضرورة للتشريح، بأن تكون أدلة الجناية ضعيفة لا تقوى على الحكم بتقدير القاضي.
الرابع: أن يكون حق الوارث قائمًا لم يسقطه.
الخامس: أن يكون التشريح بواسطة طبيب ماهر.
السادس: إذن القاضي الشرعي.
السابع: التأكد من موت من يراد تشريحه لكشف الجريمة: الموت المعتبر شرعًا.
وأما التشريح للتعلم والتعليم، فحيث إن جثث الموتى من الوثنيين وغيرهم من الكفار ميسورة الشراء لهذين الغرضين بأرخص الأسعار، وأموال المسلمين نهابًا فيبذل قسط منها .... » أي في ذلك
(1)
.
فخلصنا في نهاية البحث إلى أنه يجوز الانتفاع بجثة الميت بقصد التشريح لكشف الجريمة، والأمراض الوبائية، وبقي بالبحث جواز الانتفاع بأعضاء الميت، بما يسمى في الاصطلاح المعاصر زراعة الأعضاء، وبعضهم يفضل أن تسمى غرس الأعضاء، وهذا أدق.
* * *
(1)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي (4/ 1/174).