الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا يعني أن جهالة البدل تبطل مبادلة المال بالمال.
وأما الغرر في الأجل: فإن ذلك يتمثل في الجهالة به، فإن استحقاق العوض مبني على وقوع الخطر، وكلا المتعاقدين لا يستطيعان أن يعلما وقت حدوثه، فقد يقع بعد عقد التأمين مباشرة، وقد يتأخر وقوعه، وقد لا يقع أصلًا. فالأجل الذي به يستحق المستأمن ذلك العوض غير معلوم، هذا إذا كان مؤكد الوقوع، كالتأمين على الوفاة، فما بالك بغيره، فقد يدفع المستأمن قسطًا، أو قسطين، ثم تقع الكارثة، فيستحق العوض، وقد لا تقع الكارثة أصلًا، فيدفع جميع الأقساط، ولا يأخذ شيئًا، وقد يتأخر حدوث الخطر تأخرًا كثيرًا
(1)
.
مناقشة وجود الغرر الفاحش:
ستتم مناقشة وجود الغرر في عقد التأمين من ثلاثة وجوه:
الأول: هل هناك تسليم بأن عقد التأمين فيه غرر.
الثاني: على التسليم بأن هناك غررًا في العقد، فهل هو غرر كثير مؤثر، أو من قبيل الغرر اليسير.
الثالث: وإذا كان الغرر كثيرًا، فهل تبيحه الحاجة العامة الملحة.
وألتمس من القارئ ألا يستطيل الحديث عن الغرر، فإن هذا الدليل، هو أقوى دليل للمانعين، أو لعله هو الدليل الوحيد الذي يستحق الوقوف عنده، والمناقشة.
الوجه الأول: عدم التسليم بوجود الغرر في عقد التأمين
.
وذلك أن عقد التأمين يقوم بين طرفين: المستأمن والمؤمن، والسؤال: هل
(1)
انظر التأمين الاجتماعي في ضوء الشريعة الإسلامية (ص: 301)، التأمين بين الحظر والإباحة - محمد الصالح (ص: 107 - 112).
الغرر الموجود في عقد التأمين هو في حق المستأمن، أو في حق شركة التأمين، أو في كليهما؟
فإن قيل: إن الغرر في جانب المستأمن قلت: إن الغرر في حق المستأمن يجب أن يكون يسيرًا جدًا؛ لأن المبلغ الذي سوف يدفعه، هو مبلغ زهيد جدًا، مقابل إقدامه على المخاطرة بنفس مطمئنة، فلو أخذنا تأمين الرخصة مثالًا، لرأينا أن سائق حافلة يحمل معه يوميًا أربعين طالبًا، أو طالبة، وراتبه بمقدار ألف ريال، ومع كثرة الحوادث على الطرق، سيتحمل مسؤولية عظيمة، فيما لو تعرض له حادث، وتلف مَنْ معه مِن النفوس، فيدفع ريالًا واحدًا يوميًا، ليقدم على القيادة بنفس مطمئنة، ويقبل المغامرة بقبول هذه المهنة بهذا الراتب اليسير، وهذا المبلغ يدفعه المستأمن مقابل مشروب غازي واحد، فإن لم يتعرض للخطر فالحمد لله، فهذا ما كان يرغب فيه، وإن تعرض للخطر كان له من يحمل عنه هذه المبالغ الهائلة.
وإن قيل: إن الغرر في جانب الشركة المؤمنة، فإنه من المعلوم أن شركات التأمين هي من أكثر الشركات ربحًا في السوق، ولو كانت قائمة على الغرر لوجدتها شركات خاسرة، فالشركة تتعاقد مع عدد كبير من المؤمن لهم، وتتقاضى من كل منهم مقابلًا، ومن مجموع ما تتقاضاه من هؤلاء جميعًا، تعوض العدد القليل، الذين تحترق منازلهم، فيفي ما تتقاضاه من المؤمن لهم، بما تدفعه من التعويض لبعضهم؛ لأنها تحسب مقابل التأمين على أساس فني مستمد من قواعد الإحصاء، وحساب الاحتمالات، وقانون الكثرة، فالتأمين إذا نظرنا إليه من الجانب الآخر، وهو العلاقة ما بين الشركة، ومجموع المؤمن لهم، لا يحمل طابع المقامرة، أو الرهان.
والشركة إذا حددت مقابل التأمين تحديدًا دقيقًا، على الأسس الفنية الصحيحة، وأحسنت إدارة أعمالها، لا تتعرض لخطر يزيد على الخطر الذي تتحمله الشركات عادة في أعمال التجارة الأخرى غير أعمال التأمين، فالمؤمن لهم جميعهم معرضون لخطر واحد، يتحقق في العادة بالنسبة إلى عدد قليل منهم، ولا يتحقق بالنسبة إلى الغالبية العظمى، يتعاونون جميعًا في تعويض العدد القليل الذين يتحقق الخطر بالنسبة إليهم، فلا يتحمل هؤلاء الخسارة وحدهم، وبذلك يكفل التأمين للجميع توزيع الخسارة عليهم، فلا يخسر أي منهم، إلا مقابل التأمين الذي دفعه
(1)
.
ويدل على ذلك: أنه بالرجوع إلى نسبة الحوادث التي حصلت في المملكة العربية السعودية هذا العام، تجدها قريبة من نسبة الحوادث التي حصلت في العام الماضي، إذا أخذنا في الاعتبار الزيادة المطردة في عدد السائقين كل عام، والزيادة في عدد السيارات.
كما أن شركات التأمين لا تقبل التأمين على الأمور التي لا تخضع للإحصاء الفني، فالمحاصيل الزراعية لا تقبل شركات التأمين أن تؤمن عليها؛ لأن الآفات والنقص التي تتعرض لها المحاصيل الزراعية لا يخضع للحساب الفني الدقيق.
وإذا انتفى الغرر في حق المستأمن، وفي حق شركات التأمين انتفى الغرر عن مجموع العاقدين.
وممن يرى هذا الرأي فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله، والدكتور السنهوري
(2)
.
(1)
الوسيط (7/ 2 ص: 1086).
(2)
يقول الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله في أسبوع الفقه الإسلامي (ص: 403): =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقول الدكتور السنهوري كما في الوسيط (7/ 2/ص: 1086): «شركة التأمين لا تبرم عقد التأمين مع مؤمن له واحد، أو مع عدد قليل من المؤمن لهم، ولو أنها فعلت لكان عقد التأمين مقامرة، أو رهانًا، ولكان عقدًا غير مشروع، إذ تكون الشركة قد تعاقدت مع مؤمن له، على أنه إذا احترق منزله مثلًا - في التأمين على الحريق - دفعت له قيمته، وإذا لم يحترق كان مقابل التأمين الذي دفعه المؤمن له حقًا خالصًا لها، وهذا هو الرهان بعينه، ولكن الشركة تتعاقد مع عدد كبير من المؤمن لهم، وتتقاضى من كل منهم مقابلًا، ومن مجموع ما تتقاضاه من هؤلاء جميعًا، تعوض العدد القليل، الذين تحترق منازلهم، فيفي ما تتقاضاه من المؤمن لهم، بما تدفعه من التعويض لبعضهم؛ لأنها تحسب مقابل التأمين على أساس فني مستمد من الإحصاء، على النحو الذي سنبينه فيما يلي عند الكلام في الأسس الفنية للتأمين، فالتأمين إذا نظرنا إليه من الجانب الآخر، وهو العلاقة ما بين الشركة، ومجموع المؤمن لهم، لا يحمل طابع المقامرة، أو الرهان، والشركة إذا حددت مقابل التأمين تحديدًا دقيقًا، على الأسس الفنية الصحيحة، وأحسنت إدارة أعمالها، لا تتعرض لخطر يزيد على الخطر الذي تتحمله الشركات عادة في أعمال التجارة الأخرى غير أعمال التأمين، فالمؤمن لهم، وجميعهم معرضون لخطر واحد، يتحقق في العادة بالنسبة إلى =
جواب القائلين بالتحريم:
أجاب القائلون بالتحريم على ما سبق بما يلي:
(أ) أن عقد التأمين الذي تبرمه الشركة مع مؤمن له معين، لا ينشئ علاقة بين هذه الشركة، ومجموع المؤمن لهم، فالعلاقة بين شركة التأمين، ومجموع المؤمن لهم علاقة مفترضة، لا وجود لها في الواقع، فعقود التأمين إذن ليس لها إلا جانب واحد، هو جانب العلاقة التي تنشئها هذه العقود بين شركة التأمين، والمؤمن له المعين، وإذا كان الأمر كذلك، وجب على الفقيه أن ينظر ـ عند الحكم على عقد التأمين بالجواز، أو المنع ـ إلى ما ينشئه هذا العقد من علاقة بين طرفيه، وما يترتب على هذه العلاقة من حقوق، والتزامات متبادلة، وليس في أصول الاجتهاد الإسلامي، ما يجيز لهذا الفقيه، أن يؤسس هذا الحكم على علاقة وهمية (بين الشركة ومجموع المؤمن لهم) لم ينشئها عقد التأمين، وبالتالي يتعذر عليه معرفة ما ترتبه مثل هذه العلاقة من حقوق، والتزامات متبادلة بين طرفيها، هذه المعرفة التي تعد لازمة لمثل هذا الحكم
(1)
.
= عدد قليل منهم، ولا يتحقق بالنسبة إلى الغالبية العظمى، يتعاونون جميعًا في تعويض العدد القليل منهم الذين يتحقق الخطر بالنسبة إليهم، فلا يتحمل هؤلاء الأخيرون الخسارة وحدهم، وبذلك يكفل التأمين للجميع توزيع الخسارة عليهم، فلا يخسر أي منهم، إلا مقابل التأمين الذي دفعه».
ويقول أيضًا في المرجع السابق (ص: 1140): ويقول أيضًا: «إذا أحسن - يعني: المؤمن - تقدير الاحتمالات، والتزم الأسس الفنية الصحيحة في التأمين، لم يعرض نفسه لاحتمال الخسارة، أو لاحتمال الكسب، بأكثر مما يعرض نفسه لذلك أي شخص يعمل في التجارة» .
(1)
انظر تكملة المجموع (13/ 439).