الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتقوى، ووضع الحقوق في مواضعها، والقمار إنما يراد به الفجور، والزيغ عن الحق، واجتياح الأموال بغير حلها، فكم بين هذين، ومتى سوي الغي بالرشاد، مع أن الذي جاء بتحريم القمار، هو الذي سن الخرص، وأباحه، وأذن فيه، فما جعل قوله هاهنا مقبولًا، وهاهنا مردودًا»
(1)
.
الدليل الرابع للمانعين من التأمين التجاري
.
عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذه بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29].
وجه كون التأمين فيه أكل مال الغير بالباطل:
أن الخطر المؤمن عنه إذا لم يقع فإن الأقساط التي دفعها المستأمن أصبحت حقًا خالصًا للمؤمن بدون مقابل.
وقد يدفع المستأمن قسطًا، أو قسطين، فيقع الخطر، فيأخذ مبلغ التأمين بالكامل، ويكون أضعاف ما دفع، وهذا من قبيل أكل المال بالباطل
(2)
.
ويناقش هذا الدليل:
بأن المخالف ينازع في دعوى أن عقد التأمين فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، فالضمان الذي يلتزمه المؤمن بتحمل تبعات الأخطار التي تجري على مال المستأمن، هذا الضمان، هو شغل لذمته إلى أن يبرأ منه بتحمل الخطر عند
(1)
الأموال (ص: 593)، وقد نبه إلى هذا الدكتور رفيق يونس المصري في كتابه الخطر والتأمين (ص: 74).
(2)
انظر التأمين بين الحظر والإباحة - محمد الصالح (ص: 134).
وجود سببه، وهذا الالتزام هو الذي دفع المستأمن إلى قبول المغامرة في ماله، سواء في نقله من دولة إلى دولة، أو الدخول في صفقات تجارية، أو تعرضه للحوادث بسبب مخاطر محتملة، فكيف يقال: إن ذلك بدون مقابل.
فمحض الالتزام فيه منفعة مقصودة، ومصلحة مشروعة، والمنافع تعتبر من الأموال، وقد أجاز الحنفية والحنابلة أخذ الربح مقابل الضمان، حيث أجازوا شركة الوجوه، وهي شركة على الذمم من غير صنعة، ولا مال، حيث يتعاقد اثنان فأكثر، بدون رأس مال، على أن يشتريا نسيئة، ويبيعا نقدًا، ويقتسما الربح بينهما بنسبة ضمانهما للثمن، ويتخرج على مذهبهم، أنه لو اشترك وجيه مع آخر على الضمان، والربح مناصفة، ولم يشتر الثاني، ولم يبع شيئًا، فإنه يستحق الربح لمجرد الضمان (الذي هو مجرد التزام مال في الذمة) بدون بذل مال، أو عمل، وقد جاء في مجلة الأحكام العدلية «استحقاق الربح في الوجوه إنما هو بالضمان»
(1)
.
كما أن حديث الخراج بالضمان دليل قوي جدًا، على أن الضمان له قيمة مالية، فالخراج يراد به: ما يخرج، ويحصل من غلة العين، وذلك بأن يشتري الرجل سلعة، فيستغلها زمنًا، ثم يعثر فيها على عيب فيها، فله رد العين المعيبة، وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو تلف في يده، لكان في ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء، والباء في قوله:«بالضمان» سببية، أي الخراج مستحق بسبب الضمان
(2)
.
وهذا التلف احتمالي، وقد يكون نادرًا، ومع ذلك فالخراج له بسبب أنه قد شغل ذمته بالضمان لهذا الخطر الاحتمالي النادر، وهو ضمان مجرد ما دام أن
(1)
المادة (1400).
(2)
انظر حاشية السندي (7/ 255).
السلعة قد تبين وهو يردها، أنها لم ينقصها شيء، ومع ذلك فقد استحق هذا الخراج بمجرد هذا الضمان، فدل على أن التزام الضمان له قيمة مالية مقصودة، وأنه يسوغ بذل العوض في مقابل تحصيلها.
ومثله ما أفتى فيه بعض العلماء المعاصرين من جواز ما يسمى بتغطية الإصدار: وهو ضمان المصرف، أو بنك الاستثمار تغطية الأسهم للشركة المساهمة، مقابل عمولة على ذلك.
كما صحح المالكية بذل المال مقابل إحضار كفيل بالدين.
قال الدردير: «وإن كان الجعل من رب الدين، أو من أجنبي للمدين على أن يأتيه بحميل، فإنه جائز»
(1)
.
وقال الخرشي مثله
(2)
.
فهذا يدل على أن مجرد التزام الكفيل بالدين له قيمة مالية في ذاته، وإلا لما جاز أن يبذل رب الدين، أو الأجنبي الجعل للمدين، في مقابل تقديم كفيل بدينه، صحيح أن آخذ الجعل في هذه الصورة هو المدين، وليس الكفيل، ولكنه يشهد بكون الالتزام في عقد الكفالة، مما يصح بذل المال في مقابلته، والجعل من أجله
(3)
.
وإذا كان الحال كذلك، فكيف يقال: إن شركة التأمين قد أخذت المال بلا مقابل، مع قيامها بهذا الضمان الواجب عليها، وهو ليس ضمانًا مجردًا كما هو
(1)
الشرح الكبير (3/ 341)، وانظر مواهب الجليل (5/ 113)، الذخيرة للقرافي (9/ 214).
(2)
الخرشي (6/ 30).
(3)
وقفت على بعض هذه النصوص بفضل كتاب الشيخ نزيه حماد في كتابه قضايا فقهية معاصرة (ص: 291 - 294).