الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم الثاني:
لا يجوز مقابلة الضرر بمثله، وهو الضرار.
فمن أتلف مال غيره مثلًا، فلا يجوز أن يقابل بإتلاف ماله؛ لأن في ذلك توسيعًا للضرر بلا منفعة، وأفضل منه تضمين المتلف قيمة ما أتلف؛ فإن فيه نفعًا بتعويض المضرور، وتحويل الضرر نفسه إلى حساب المعتدي، وذلك بخلاف الجناية على النفس والبدن مما شرع فيه القصاص، فمن قتل يقتل، ومن قطع يقطع؛ لأن هذه الجنايات لا يقمعها إلا عقوبة من جنسها، كي يعلم الجاني أنه في النهاية كمن يعتدي على نفسه، ومهما تكن العقوبة الأخرى فإنها لا تعيد للمجني عليه ما فقد من نفس أو عضو
(1)
.
ومن أجل دفع الضرر شرع الشارع أمورًا ومنع من أخرى من باب الوقاية من الوقوع في الضرر، ورفعه أو تخفيفه إذا وقع، وقطع كل ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء.
ففي ميدان المصالح العامة: شرع الجهاد، لدفع ضرر الأعداء.
وشرع العقوبات؛ لقمع الإجرام.
وشرع سد ذرائع الفساد؛ لدفع الشر بجميع أنواعه.
وفي ميدان الحقوق الخاصة: شرع الرد بالعيب؛ لإزالة الضرر الواقع على المشتري.
وشرع جميع أنواع الخيارات؛ لإزالة الأضرار الواقعة على أحد المتعاقدين، كخيار المجلس، والعيب، والغبن، والتدليس.
(1)
انظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 36)، المدخل الفقهي العام (2/ 978).
وشرع الحجر بسائر أنواعه منعًا للضرر الحاصل من سوء التصرف، أو الضرر اللاحق للدائنين.
وشرع الشفعة لدفع ضرر الشريك.
وهذه أمثلة لما شرعه الشارع في سبيل منع الضرر ودفعه وتخفيفه، وهي أمثلة تدل على غيرها.
وأما ما منعه الشارع في سبيل الوقاية من الوقوع في الضرر.
فيدخل فيه كل ما يضر الإنسان نفسه: سواء كان الضرر في دينه كبيع وشراء الأفلام الخليعة التي تخدش الحياء، ومثله بيع كتب أهل البدع، والروايات الماجنة، والمجلات الخليعة.
أو يضر المشتري في بدنه، أو في ماله، مثل بيع وشراء الخمر، والحشيش والمخدرات، والدخان، وسائر المحرمات.
أو يلحق ضررًا بالسوق. مثل الاحتكار - والتسعير - وتلقي الجلب - وبيع الحاضر للباد.
أو يلحق ضررًا بأخيه المسلم: كالبيع على بيعه - وبيع المضطر - وأخذ الربا - وغبن المسترسل - والنجش، وحرم الغش، والتدليس (كالتصرية)، وحرم القمار والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل.
أو يعين على باطل، مثل بيع السلاح في زمن الفتنة، وبيع العنب لمن يعصره خمرًا.
وأختم هذه المقدمة الموجزة لبيان ذكر بعض القواعد التي ذكرها الفقهاء لمنع الضرر، وإزالته، وتخفيفه، والمقام لا يحتمل شرح كل هذه القواعد، لأن المقصود من هذا الكلام التمهيد لبيان بعض البيوع المحرمة من أجل الضرر، فمن هذه القواعد:
ــ الأصل في المنافع الحل، وفي المضار التحريم
(1)
.
ــ العقود ما شرعت إلا للنفع، وكل بيع فيه ضرر من غير نفع راجح لا يجوز؛ لأنه خلاف الوضع، وخلاف الوضع لا يجوز في الشرع.
ــ كل أمر ضرره وإثمه أكبر من نفعه فهو منهي عنه، من غير أن يحتاج إلى نص خاص
(2)
.
ــ الضرر يدفع بقدر الإمكان
(3)
.
ــ الضرر يزال
(4)
.
(1)
قال تعالى {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157]. ودليل أن الأصل في المنافع الحل قوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29] وقوله {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] ودليل التحريم على المضار قوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا} [البقرة:231] وقال تعالى: {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} [البقرة:233]. وقوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر، ولا ضرار. وهو حديث حسن. وانظر هذه القاعدة في المراجع التالية، الإبهاج للسبكي (3/ 165)، الذخيرة (1/ 155)، التمهيد للأسنوي (1/ 487).
(2)
قال تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219].
(3)
انظر المادة (31) من مجلة الأحكام العدلية.
(4)
انظر غمز عيون البصائر (1/ 37، 274)، المادة (20) من مجلة الأحكام العدلية، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 7، 83)، مطالب أولي النهى (3/ 111، 729).
وقد شرع الله دفع الصائل من هذا الباب، جاء في حديث رواه مسلم (140) من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قال: فلا تعطه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني، قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار.
والمقصود من هذه القاعدة: رفع الضرر وترميم آثاره.
ــ الضرر لا يزال بمثله
(1)
.
وهذا قيد للقاعدة السابقة، فإن إزالة الضرر لا يجوز أن يكون بإحداث ضرر مثله؛ لأن السعي بإزالته بإحداث ضرر مثله ضرب من العبث، ولأن هذا ليس إزالة للضرر، ويفهم من ذلك، أنه لا تجوز إزالته بضرر أعظم منه بحكم الأولوية.
ــ الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف
(2)
.
«يعني: أن الضرر تجوز إزالته بضرر أخف منه، ولا يجوز أن يزال بمثله، أو بأشد منه»
(3)
.
ــ يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام.
أو بعبارة أخرى: دفع الضرر العام واجب، ولو بإثبات الضرر الخاص
(4)
.
درء المفاسد أولى من جلب المنافع
(5)
.
الضرورات تبيح المحظورات
(6)
.
(1)
انظر المادة (25) من مجلة الأحكام العدلية، غمز عيون البصائر (1/ 280)، وانظر المبدع شرح المقنع (5/ 222)، كشاف القناع (3/ 431)، الروض المربع (2/ 406).
(2)
بريقة محمودية (1/ 62)، المادة: 27 من مجلة الأحكام العدلية.
(3)
درر الحكام شرح مجلة الحكام (1/ 40)، قواعد الفقه - محمد عميم الإحسان (ص: 88).
(4)
تبيين الحقائق (6/ 147)، العناية شرح الهداية (5/ 447 - 448)، البحر الرائق (8/ 403).
(5)
الدر المختار (2/ 57)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 87)، وانظر المادة (30) من مجلة الأحكام.
(6)
الفواكه الدواني (2/ 308)، انظر المنثور في القواعد الفقهية (2/ 317).
ومن ثم أبيحت الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر لمن غص، ولم يجد غيرها، وأبيحت كلمة الكفر للمكره.
قال تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119].
وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106].
هذا ما أردت أن أُقدِّم به بين يدي بحث بعض المسائل التي منعت من أجل الضرر، والتي يذكرها الفقهاء عادة في هذا الفصل، وسوف أنتقي من هذه المسائل ما يناسب البحث إن شاء الله تعالى، سائلًا الله الإعانة والتوفيق، إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
* * *