الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
البيوع المنهي عنها من أجل الضرر
تمهيد
في تعريف الضرر
كل البيوع المنهي عنها لا بد وأن فيها ضررًا، ولذلك نهى الشارع عنها، وأحكام المعاملات معللة، وليست تعبدية، لأن القصد منها تحقيق العدل بين الناس، ورفع الظلم عنهم، فلا تجد معاملة قد نهى عنها الشارع ولا تتلمس الضرر البين فيها.
تعريف الضرر اصطلاحًا
(1)
:
الذي يعنينا هنا من الضرر هو الضرر المالي فحسب، ولسنا في صدد الضرر بمفهومه العام، والذي قد يلحق أيضًا غير المال من بدن، أو عرض.
(1)
جاء في المصباح المنير (ص: 360): «الضر:
…
بضم الضاد: اسم، وبفتحها مصدر ضره، يضره من باب: قتل إذا فعل به مكروهًا.
وأضر به يتعدى بنفسه ثلاثيا وبالباء رباعيًا.
قال الأزهري: كل ما كان سوء حال، وفقر، وشدة في بدن، فهو ضُر بالضم وما كان ضد النفع فهو بفتحها وفي التنزيل {مسني الضر} [الأنبياء:83] أي المرض، والاسم الضرر، وقد أطلق على نقص يدخل الأعيان». اهـ
وفي لسان العرب (4/ 482): الضَّرّ ضد النفع، والضُّر بالضم الهزالُ وسوء الحال. وقوله عز وجل:{وإذا مسّ الإِنسانَ الضر دعانا لِجَنْبه} [يونس: 12] وقال: {كأَن لم يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مسَّه} [يونس: 12] فكل ما كان من سوء حال، وفقر، أَو شدّة في بدن فهو ضُرّ وما كان ضدًّا للنفع فهو ضَرّ
…
وضَرَّهُ يَضُرّه ضَرًّا وضَرّ بِه وأَضَرّ بِه وضَارَّهُ مُضَارَّةً وضِرارًا بمعنى. والاسم الضَّرَر».
وقد عرف الشيخ علي الخفيف الضرر المالي بقوله: «كل أذى يصيب الإنسان، فيسبب له خسارة مالية في أمواله، سواء كانت ناتجة عن نقصها، أو عن نقص منافعها، أو عن زوال بعض أوصافها، ونحو ذلك مما يترتب عليه نقص في قيمتها عما كانت عليه قبل حدوث ذلك الضرر»
(1)
.
ولقد اعتنى الشارع الحكيم بموضوع الضرر، ومنعه قبل وقوعه، ودفعه بعد وقوعه، برفعه أو تخفيف آثاره، وقعد الفقهاء لذلك مجموعة من القواعد الفقهية الكلية التي تضبطه، وتوضح معالمه العامة، وتعالج آثاره.
(ح-243) وكان الحديث النبوي، الذي رواه الدارقطني من طريق عثمان ابن محمد بن عثمان بن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه،
عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شق الله عليه
(2)
.
[المعروف من حديث أبي سعيد أنه مرسل، وهو حسن بشواهده]
(3)
.
(1)
الضمان في الفقه الإسلامي - علي الخفيف (ص: 38).
(2)
سنن الدارقطني (3/ 77).
(3)
الحديث أخرجه الحاكم (2345)، والبيهقي (6/ 69)، من طريق عثمان بن محمد به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 537): «هذا حديث لم يخرجوه، وفي إسناده عثمان ابن محمد لا أعرف حاله، وقد رواه الحاكم، وزعم أنه صحيح الإسناد، وفي قوله نظر، والمشهور فيه الإرسال، كذلك رواه مالك عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلًا» .
وقال البيهقي في السنن (6/ 69): «تفرد به عثمان عن الدراوردي» .
ولعل الخطأ فيه من الدراوردي، وذلك أن عثمان بن محمد قد توبع فيه، وهذا ما فهمه ابن عبد البر، قال في الاستذكار (7/ 190): «هذا الحديث في الموطأ عند جميع الرواة مرسلًا، وقد رواه الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري مسندًا، ثم ساق الحديث بسنده من طريق عبد الملك بن معاذ النصيبي، قال: حدثني =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو ابن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن أبي سعيد به». اهـ
قلت: عبد الملك بن معاذ ليس أحسن حالًا من عثمان بن محمد، فقد قال الذهبي في ميزان الاعتدال (5253):«لا أعرفه، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله، وله عن الدراوردي، عن عمرو ابن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد مرفوعًا: لا ضرر، ولا ضرار» .
كما فهم ابن رجب في جامع العلوم والحكم أن الخطأ فيه من الدراوردي، ولذلك قال بعد أن نقل كلام ابن عبد البر المتقدم (1/ 302):«والدراوردي كان الإمام أحمد يضعف ما حدث به من حفظه، ولا يعبأ به، ولا شك في تقديم قول مالك على قوله، وقال خالد بن سعد الأندلسي الحافظ: لم يصح حديث لا ضرر، ولا ضرار مسندًا» .
وقال ابن عبد البر في التمهيد (20/ 158): «إن هذا الحديث لا يستند من وجه صحيح» . وضعفه ابن حزم في المحلى (8/ 241) و (9/ 28).
وقد رواه مالك في الموطأ (2/ 745) ومن طريقه رواه الشافعي كما في الأم (7/ 230) ومسند الشافعي (ص: 224)، وسنن البيهقي (6/ 157) عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ضرر، ولا ضرار. وهذا مرسل، ورجاله ثقات، وهو المعروف من هذا الطريق.
وله شواهد كثيرة، منها:
الشاهد الأول: حديث عكرمة، عن ابن عباس.
وله ثلاثة طرق إلى عكرمة:
الأول جابر الجعفي، عن عكرمة.
أخرجه أحمد (1/ 313)، وابن ماجه (2341)، والطبراني في المعجم الأوسط (3777)، والبيهقي (6/ 69) من طيق عبد الرزاق، عن معمر، عن جابر، عن عكرمة، عن ابن عباس.
إلا أن ابن ماجه اقتصر على لفظ (لا ضرر، ولا إضرار).
واقتصر البيهقي على لفظ: «لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه في حائط جاره، وإذا اختلفتم في الطريق الميتاء، فاجعلوها سبعة أذرع» .
ورواه أحمد والطبراني بتمامه بمجموع اللفظين.
وجابر بن يزيد الجعفي ضعيف إلا أنه قد توبع كما سيأتي في الطريق التالية. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الثاني: داود بن الحصين، عن عكرمة.
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11576) حدثنا أحمد بن رشدين المصري، ثنا روح ابن صلاح، ثنا سعيد بن أبي أيوب، عن داود بن الحصين، عن عكرمة به.
وشيخ الطبراني أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين المصري،
قال أحمد بن صالح: كذاب. مختصر الكامل في الضعفاء وعلل الحديث للمقريزي (42).
وقال ابن عدي: صاحب حديث كثير، يحدث عن الحفاظ بحديث مصر، أنكرت عليه أشياء مما رواه، وهو ممن يكتب حديثه مع ضعفه. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت منه بمصر، ولم أحدث عنه لما تكلموا فيه. الجرح والتعديل (2/ 75).
قال الذهبي: من أباطيله رواية الطبراني وغيره عنه، قال: حدثنا حميد بن علي البجلي الكوفي واه، ثنا ابن لهيعة، عن أبي عشانة، عن عقبة بن عامر مرفوعًا، قالت الجنة: أليس وعدتني أن تزينني بركنين، قال: ألم أزينك بالحسن والحسين، فماست كما تميس العروس. ميزان الاعتدال (538).
فقوله من أباطيله: واضح أن الذهبي جعل الحمل عليه، وأن الحديث من وضعه.
كما أن شيخه روح بن صلاح مختلف فيه:
قال الدارقطني: ضعيف في الحديث. لسان الميزان (2/ 465).
وقال ابن ماكولا: ضعفوه. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: ضعيف. وقال أيضًا: ولروح أحاديث ليست بالكثيرة
…
وفي بعض أحاديثه نكرة. الكامل (3/ 146).
وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 244).
وقال الحاكم: ثقة مأمون. لسان الميزان (2/ 465). اهـ والجرح مقدم على التعديل حسب القواعد خاصة إذا صدر من إمام كالدارقطني وابن عدي وابن ماكولا، والله أعلم.
وتابع إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة شيخ الطبراني كما في سنن الدارقطني (4/ 228) فرواه من طريقه عن داود بن الحصين به.
وإبراهيم بن إسماعيل هذا ضعيف، مع أن داود بن الحصين قد تكلم في روايته عن عكرمة.
قال أبو داود: أحاديثه عن شيوخه مستقيمة، وأحاديثه عن عكرمة مناكير. تهذيب الكمال (3/ 157). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال علي بن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر الحديث. الجرح والتعديل (3/ 408)، التعديل والتجريح (2/ 565).
الطريق الثالث: سماك، عن عكرمة.
رواه ابن أبي شيبة كما في نصب الراية، ولم أقف عليه في المصنف، ولا في المطالب العالية، ولا في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، قال الزيلعي (4/ 384):«رواه ابن أبي شيبة: حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا» .
ورواية سماك عن عكرمة فيها اضطراب فهي ليست أحسن حالًا من رواية داود بن الحصين عن عكرمة.
الشاهد الثاني: حديث أبي هريرة.
رواه الدارقطني (4/ 228) من طريق أبي بكر بن عياش، قال: أراه عن ابن عطاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ضرر، ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه.
وهذا إسناد ضعيف، فيه أبو بكر بن عياش، وإن كان ثقة إلا أنه نسب إلى التغير بآخرة، كما ذكر ذلك البخاري، انظر نصب الراية (1/ 409)، وانظر الكواكب النيرات (68).
وفيه أيضًا: يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، قال عنه الحافظ في التقريب: ضعيف.
الشاهد الثالث: حديث عبادة بن الصامت.
فأخرجه عبد الله بن أحمد كما في زوائد المسند (5/ 327) من طريق الفضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت.
عن عبادة بن الصامت قال: إن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أقضية كثيرة، منها: وقضى أن لا ضرر، ولا ضرار.
ومن طريق الفضيل بن سليمان أخرجه ابن ماجه (2340) والبيهقي (6/ 156) وابن عساكر في تاريخ دمشق (23/ 114) إلا أنهم اقتصروا على لفظ: لا ضرر، ولا ضرار.
والحديث فيه ثلاث علل الأولى: ضعف الفضيل بن سليمان.
الثانية: جهالة حال إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة.
الثالثة: الانقطاع بين إسحاق بن يحيى وبين جده عبادة بن الصامت. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال البوصيري في الزوائد (3/ 124، 132): «هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع، إسحاق بن يحيى لم يدرك عبادة، قاله البخاري والترمذي .. » .
الشاهد الرابع: حديث ثعلبة بن أبي مالك.
أخرجه أبو بكر في الآحاد والمثاني (2200)، والطبراني في المعجم الكبير (2/ 86) رقم: 1387 من طريق إسحاق بن إبراهيم مولى مزينة، عن صفوان بن سليم، عن ثعلبة به.
وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم مولى مزينة، قال أبو زرعة: منكر الحديث ليس بقوي، وقال أبو حاتم: لين الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. تهذيب التهذيب (1/ 187).
الشاهد الخامس: حديث عائشة.
رواه الدارقطني (4/ 227) من طريق الواقدي، أخبرنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد ابن ثابت، عن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا.
وهذا سند ضعيف جدًا، فيه الواقدي، وهو متروك.
ورواه الطبراني في الأوسط (268) حدثنا أحمد بن رشدين، قال: حدثنا روح بن صلاح، قال: حدثنا سعيد بن أبي أيوب، عن أبي سهل، عن القاسم بن محمد، عن عائشة مرفوعًا.
وأحمد بن رشدين سبقت ترجمته، وأنه قد اتهمه بعضهم بالكذب.
وروح بن صلاح سبقت ترجمته قبل قليل، وأنه ضعيف.
كما رواه الطبراني في الأوسط أيضًا (1033) من طريق أبي بكر بن أبي سبرة، عن نافع ابن مالك، قال: حدثنا أبو سهل به.
وأبو بكرة بن أبي سبرة رمي بالوضع.
الشاهد السادس: حديث جابر.
ما رواه الطبراني في الأوسط (5193) من طريق محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله، قال: قال صلى الله عليه وسلم: لا ضرر، ولا ضرار في الإسلام.
قلت: مع تفرد ابن إسحاق في هذا الحديث، وعنعنته، فقد اختلف عليه فيه،
فرواه أبو داود في المراسيل (407) من طريق عبد الرحمن بن مغراء، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأرسله، ولم يبلغ به جابر بن عبد الله، وعبد الرحمن بن مغراء، صدوق، تكلم في روايته عن الأعمش، والله أعلم. =
يعتبر كما قال أبو داود: من الأحاديث التي يدور الفقه عليها. اهـ
بل إن هذا الحديث نصف الفقه، وذلك أن الأحكام: إما لجلب مصلحة، أو لدفع مضرة
(1)
.
لأن الشريعة إما أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، والأول تجلب فيه المصالح، والثاني تدفع فيه المضار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)
فيه نفي الضرر، وليس المراد نفي وقوعه، ولا إمكانه، فدل على أنه لنفي الجواز، وإذا انتفى الجواز ثبت التحريم، فالحديث يوجب منعه مطلقًا، ويشمل بعمومه الضرر العام والخاص، ويشمل ذلك دفعه قبل الوقوع بطرق الوقاية الممكنة، ورفعه بعد الوقوع بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره، وتمنع تكراره، وتدل أيضًا على وجوب اختيار أهون الشرين لدفع أعظمهما؛ لأن في ذلك تخفيفًا للضرر عندما لا يمكن منعه بتاتًا
(2)
.
= ورجح ابن رجب الطريق المرسل على الطريق المتصل في جامع العلوم والحكم (ص: 304).
هذا ما وقفت عليه من طريق الحديث، ولعل الحديث لا ينزل عن رتبة الحسن، فإن كثرة طرقه يقوي بعضها بعضًا، وقد حسن الحديث جماعة من أهل العلم،
منهم النووي في المجموع (8/ 238). وابن رجب كما في جامع العلوم والحكم (ص: 302)، ونقل عن أبي عمرو بن الصلاح تحسينه، وقال أيضًا: تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبو داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف. اهـ وانظر خلاصة البدر المنير (2/ 438).
(1)
شرح الكوكب المنير (ص: 598).
(2)
انظر الإبهاج (3/ 166)، المدخل الفقهي العام (2/ 978).