الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجواب على رد المجمع:
القول بأن التقاعد التزم به ولي الأمر في مقابل ما قام به الموظف من خدمة الأمة، هذا قول غير صحيح، فإنه التزم به في مقابل الأقساط التي تؤخذ من راتب الموظف والعامل، وليس مكافأة على خدمته في مجال عمله، ولو كان مكافأة له على خدمته لم يُقْتَطع جزء من راتبه لمصلحة التقاعد، أو لمؤسسة التأمينات الاجتماعية، ولو كان مكافأة لم يعاقب العامل لدى القطاع الخاص إذا لم يدفع قسط التأمين بغرامة مالية.
ولو كان مكافأة لم يطالب من أخذ إجازة بدون راتب، أن يسدد من قِبَله فترة إجازته جميع الأقساط التي كان من المفترض أن تخصم من راتبه لمصلحة التقاعد.
والقول بأن نظام التقاعد ليس من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية من غريب القول، فما هي المعاوضات المالية في تعريف المشايخ الفضلاء، أليس كل واحد من طرفي العقد يأخذ مقابلًا لما أعطى؟ أليس الموظف يبذل عوضًا ماليًا، وتلتزم الدولة بالمقابل بدفع عوض مالي آخر، على شكل راتب يأخذه مدى حياته، وبعد وفاته بشروط معينة، أليس هذا هو حقيقة المعاوضة، الفرق أن المعاوضة في التأمين بين فرد وشركة، وأما في التقاعد فهو بين موظف أو عامل وبين الدولة ممثلة بمؤسسة التأمينات الاجتماعية، أو مصلحة التقاعد، وهذا لا يشكل فارقًا جوهريًا.
ولو سلم أن الربح غير مقصود، فالمعاوضة المالية ليست متوقفة على الربح، حتى يقال: إذا لم يقصد الربح انتفت المعاوضة، فالبيع بالتولية معاوضة على الصحيح عند جمهور العلماء، والربح منتف، وبيع الوضيعة معاوضة، والخسارة معلومة.
والقول بأن الدولة ليست في مركز المعاوض، ولا تطلب مقابلًا لما تبذل، فلماذا إذا تعمل الدول على نماء هذا المال، واستثماره فيما يجوز، ومالا يجوز، وتقترض منه إذا احتاجت إليه، أليس هذا يعود عليها بالنفع، وهو عين ما يطلبه صاحب المال من ماله.
ولماذا لا يشرف على نظام التقاعد وزارة الأوقاف، إذا كان صندوق مؤسسة التأمينات الاجتماعية أو مصلحة التقاعد صندوقًا وقفيًا خيريًا تعاونيًا، لماذا يربط في بعض الدول بوزارة التجارة، أو بوزارة المالية، فربطه بإحدى هاتين الوزارتين دليل على أن سبيله التجارة ليس إلا، والله أعلم.
فالذي يحرم التأمين التجاري يلزمه القول بتحريم نظام التقاعد، فإنه نوع من التأمين، ومن أجاز التأمين الاجتماعي يلزمه القول بجواز التأمين التجاري، حيث لا فرق
(1)
.
(1)
نقدي للتأمينات الاجتماعية منصب على العقد دون ما يحتف بالعقد من مفاسد ومحرمات شرعية بسبب الممارسة والتطبيق، من الإيداع بالفوائد والاستثمار المحرم، لأن هذه الممارسات ليست من لوازم التأمين وأركانه، ويجب الحكم عليها وحدها، ولأن هذه الأمور من الممكن علاجها، وإن كان تشخيص الواقع مهما جدًا لمعرفة ما يحتف به من محرمات، كما أن نقدي ليس متوجهًا لنظام التقاعد في بلد معين، وإنما هو للنظام كنظام في سائر البلاد، فالكلام فيه يتعلق بالبحث الأكاديمي المجرد، وليس انتقادًا لجهة دون أخرى، وهو فيه مصلحة ظاهرة من جهة قيام هذا النظام بصيانة حياة الموظف والعامل بعد عجزهما، وصيانة حياة أسرهما، ولكن هذه المصلحة تجعل على أهل العلم مسؤولية القيام بالبديل الشرعي، وذلك من خلال نظام المضاربة بما يخصم من أموال الموظف، وإرجاعها إليه في كبره على شكل رواتب، ومن حفظ حقه وعدم حرمانه منها بسبب الوفاة، وتأهل الورثة؛ لأنها حق مالي أخذ منه، وعمل فيه، فالعائد المالي يستحقه مطلقًا، بعد خصم حق المضارب والمصاريف المستحقة، ولو طبق هذا النظام لاستغنى الموظف في آخر عمره، وتوفر له دخل أكثر بكثير مما تصرفه هذه الجهات القائمة الآن، وربما صرف له أكثر من الراتب المستحق له، خاصة أن شركات التأمين هي شركات رابحة في النظر إلى واقعها في السوق، والله أعلم.
وكون الدولة تدفع نسبة من قسط التأمين لا يعني أنها متبرعة بها؛ لأن هذا المبلغ إنما دفع بشرط أن يكون موظفًا لديها، فهو جزء من التزامات العقد بين الموظف وبين الدولة، فهو داخل في المعاوضة، بدليل أن أصحاب المؤسسات الخاصة ملزمون بدفع نفس النسبة عن عمالهم، ويعاقبون إذا تخلفوا عن دفع تلك النسبة، فلو لم يكن ذلك جزءًا من التزام العقد لم يلزموا، ولم يغرموا إذا تأخروا.
ولو صح أن يقال: إن ما تدفعه الدولة من قبيل التبرع، لكانت القروض الربوية، يمكن أن يقال عنها: إن ما زاد عن قيمة القرض فإن المقترض متبرع به للمقرض.
ولو سلمنا أن ما تدفعه الدولة يعتبر من قبيل التبرع المحض، فهذا لا ينطبق على ما يدفعه الموظف، فإن ما يدفعه الموظف هو من قبيل المعاوضة، لأن ما يدفعه الموظف سوف يأخذ مقابلًا لما يدفعه، ووجود طرف ثالث متبرع لا يجعل المعاملة كلها من قبيل التبرع الجائز.
إنني أضع هذه التساؤلات أمام نظر مشايخنا، وفقهائنا للنظر فيها وإبداء الرأي، والنقد لما جاء فيها قيامًا بواجب العلم وأداء للأمانة، ولا أعتقد أن الدولة ملومة وقد أفتاها كثير من أهل العلم والفضل بجواز ذلك، ولكن المسئولية تقع على أهل العلم وذلك بتقديم بديل شرعي صحيح للوضع القائم لذلك كان هذا القول مني تسجيلًا لرأيي في المسألة حتى لا يقال: إن المسألة فيها إجماع على القول بالجواز، وأظن ولاة الأمر حريصين على البديل الشرعي
السليم الذي يحقق الأهداف التي من أجلها قام نظام التقاعد، مع تحقيق نظام عادل يحفظ للموظف والعامل حقه المالي المأخوذ منه، ويحفظ حسن رعايته ورعاية من يعول في كبره، فالمسؤولية الكبرى على الفقيه المسلم في إيجاد بديل شرعي سالم من المخالفات، وإني مستعد للمشاركة في وضع بديل شرعي متوازن في حال طلب مني ذلك، والله أعلم.
* * *