الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشركة بسيارة مثلها، أو تصلحها وهذا هو الأمان والاطمئنان مما يستوجب أن يدفع فيه نفيس الأثمان.
الراجح من الخلاف:
بعد هذا النقاش، واستعراض الأدلة، أريد أن أسجل بعض النتائج من ذلك:
أولًا: أجد أن الخلاف في التأمين هو خلاف قوي، والترجيح إنما هو بين قول قوي وآخر أقوى منه، ولا يحسن من بعض المشايخ عند التعرض له، أن يقول أحدهم: دحض شبه القائلين بكذا، من القولين، فليس القول الذي لا نشتهيه: هو القول الساقط، وأدلته مجرد شبه، بل لكل قول وجهته، وأدلته القوية.
ثانيًا: أن بعض المعاملات المالية قد يتنازعها موجبان، موجب يقول بالتحريم، وموجب آخر يقول بالإباحة، والأخذ إنما هو بأقوى الداعيين بمقتضى اجتهاد الباحث، ولا يطلب من كل المعاملات المالية الحلال ألا يكون فيها ما يوجب التحريم، وهذه من مرونة الشريعة الإسلامية وتقديرها لمصالح العباد، فعقد السلم يتنازعه المبيح والمانع، فالمانع لأنه بيع معدوم، وقد لا يوجد المعقود عليه مستقبلًا فيتعذر التسليم، ويفسخ العقد، ويكون انتظار المشتري بلا مقابل، وإن وجد المعقود عليه فقد تتغير قيمته هبوطًا أو ارتفاعًا، وكل هذا مما يستدعي المنع، وأما الداعي للإباحة: فإن البيع واقع في الذمة، وليس على شيء معين، والناس بحاجة إلى هذه المعاملة لحاجة المزارعين إلى السيولة لاستصلاح الأرض والزرع والثمار، وحاجة التجار إلى الحصول على هذه المحاصيل بسعر أقل، فيرتفق المزارعون بحصولهم على الأموال، ويرتفق التجار بحصولهم على السلع بقيمة أقل، وهكذا.
ومن ذلك إباحة الغرر التابع، فإن الغرر التابع قد يكون كثيرًا، ومؤثرًا في قيمة الصفقة، ومع ذلك إرفاقًا بالناس أجازت الشريعة هذه المعاملة، وبقيت المفسدة مغمورة في جانب الضرر الواقع على الناس فيما لو منعوا من تبادل مثل ذلك.
ومن ذلك النهي عن بيع الحاضر للباد، فإنه يتنازعه مبيح ومانع أيضًا:
فالنصيحة للمسلم البادي، والذي قدم من مكان بعيد، متحملًا عناء الأسفار، والابتعاد عن الأهل، مع جهله بالأسعار، وتشوفه للتعويض مقابل ما أنفقه على بهائمه لاسيما مع قلة الأمطار، وغلاء الأعلاف، وصعوبة التنقل بالمواشي طلبًا للكلأ، وبحثًا عن الماء، كل ذلك يحمل المسلم أن يبيع له بسعر السوق لينفعه، وليعود ذلك بالنفع عليه وعلى أهله، وعلى مواشيه.
ينازع ذلك مصلحة السوق، وأن يرزق الله العباد بعضهم من بعض، وهذه مصلحة عامة في مقابل مصلحة خاصة، والعام مقدم على الخاص، ولهذا قدمت هذه المصلحة على تلك، وهكذا كثير من المعاملات قد يتنازعها موجبان، مبيح وحاضر، وتلحق بأقواهما، والله أعلم.
ثالثًا: أن التأمين التجاري وإن قلت بجوازه لكونه من عقود الغرر فإن الغرر في عقد التأمين أرى أنه من الغرر الكثير وليس من الغرر اليسير، ولكن أباحته عندي حاجة الناس إلى هذه المعاملة بخلاف التأمين على الحياة و التأمين الاجتماعي فإن الحاجة لا تبيحه مطلقًا؛ لأنه من عقود الربا، لكونه دراهم بدراهم مؤجلة مع التفاضل.
رابعًا: أن على طالب العلم إذا لم يغلب على ظنه القول بالتحريم فعليه أن يفتي بجواز التأمين حتى يتبين له القول بالتحريم؛ لأن الأصل في المعاملات الإباحة حتى نتيقن المانع، أو يغلب على الظن قيامه، والاحتياط للنفس غير
الاحتياط للخلق، فإن الاحتياط للخلق ألا يحرم طالب العلم على الناس ما يشك في تحريمه.
ومع هذا الترجيح، فإن عقلي، وقلبي مفتوحان لتقبل ما قد يكشفه اعتراضات الإخوة على هذا الترجيح، لو بان لي أنني لم يحالفني الصواب، وقد قلت ذلك عن اجتهاد، فإن يكن صوابًا فالحمد لله على فضله، وإن يكن غير ذلك، فأستغفر الله، والذي يجب أن ندركه أن هذه المسألة أعني مسألة التأمين أصبحت قدرًا من مسائل الخلاف، ولم يحصل عليها إجماع، وهذا من سعة رحمة الله على عباده، فمن لم ينشرح صدره للقول بالجواز، فعليه أن ينشرح صدره لتقبل الخلاف فيها، ولكل دليله، ولا ينكر على من تبنى أحد القولين باجتهاد، ومن أنكر عليه فقد أساء وتعدى وظلم.
* * *