الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثالث: التسليم بأن التأمين فيه غرر كثير، والأصل فيه التحريم، ولكن أباحته الحاجة
.
نسلم بأن عقد التأمين ينطوي على غرر كثير، وأن الأصل فيه التحريم، ولكن أباحته الحاجة الملحة العامة. وهذا ما أميل إليه.
(1)
.
وابن تيمية، وإن مثل لقاعدته في الغرر التابع، والغرر اليسير؛ لأن ابن تيمية من عادته إذا ساق الأمثلة، اختار من الأمثلة ما لا نزاع فيه، ولكن العبرة بالقاعدة التي ساقها ابن تيمية، فإنه رخص في الغرر إذا دعت إليه الحاجة، والغرر الذي تبيحه الحاجة أعم من الغرر اليسير أو التابع، فهذان يباحان مع قيام الحاجة، وبدونها.
ويقول ابن تيمية أيضًا: «من أصول الشرع، أنه إذا تعارضت المصلحة، والمفسدة قدم أرجحهما، فهو إنما نهى عن بيع الغرر، لما فيه من المخاطرة التي تضر بأحدهما، وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ذلك، فلا يمنعهم الضرر اليسير، بوقوعهم في الضرر الكثير، بل يدفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما، ولهذا لما نهاهم عن المزابنة، لما فيها من نوع ربا، أو مخاطرة، أباحها لهم في العرايا للحاجة؛ لأن ضرر المنع من ذلك أشد،
(1)
القواعد النورانية (ص: 118).
وكذلك لما حرم عليهم الميتة؛ لما فيها من خبث التغذية، أباحها لهم عند الضرورة؛ لأن ضرر الموت أشد، ونظائره كثيرة
…
»
(1)
.
(2)
.
وهذه المفاسد التي ساقها ابن تيمية في عقد الغرر من كونه مظنة العداوة والبغضاء، وأكل أموال الناس بالباطل إنما توجد في الغرر الكثير، وليس في الغرر اليسير أو التابع، ومع ذلك رأى ابن تيمية أن المصلحة الراجحة إذا عارضت تلك المفاسد فإنها مقدمة عليها.
ويقول ابن تيمية أيضًا: «والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه من ذلك»
(3)
.
ويقول ابن تيمية أيضًا: «المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم»
(4)
.
وهذا يدل على أن المعاملة المالية قد يتنازعها موجبان: أحدهما يدعو إلى التحريم، وهو وجود الغرر، والآخر يدعو إلى الإباحة، وهو قيام الحاجة العامة الملحة، وتكون للأقوى منهما.
(1)
مجموع الفتاوى (20/ 538 - 539).
(2)
المرجع السابق (29/ 48).
(3)
المرجع السابق (29/ 227).
(4)
مجموع الفتاوى (29/ 49).
ويقول الشيخ الصديق الضرير في كتابه القيم الغرر وأثره في العقود:
(1)
.
ويقول أخونا الشيخ خالد المصلح: «ألا تدعو إلى الغرر حاجة عامة، فإن الحاجات العامة تنزل منزلة الضرورات .... فإذا دعت حاجة الناس إلى معاملة فيها غرر لا تتم إلا به فإنه يكون من الغرر المعفو عنه
…
»
(2)
.
وقد أجمع العلماء على جواز الغرر التابع وإن كان كثيرًا، فلو أن رجلًا باع ألف نخلة، وفي كل نخلة ثمر لم يبد صلاحه، جاز دخول الثمرة في الصفقة، مع أنه لا يجوز بيعه منفردًا؛ لوجود الغرر فيه، ومع أن الغرر كثير، وقيمة الثمر في العقد كبيرة جدًا، ومع ذلك جاز بيعه، لقيام الحاجة إلى جوازه. فكذلك الغرر في التأمين مقيس عليه، وإن كان كثيرًا، بجامع الحاجة العامة، فالناس اليوم بأشد الحاجة إلى التأمين.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة لما فيها من الربا، ورخص في العرايا لحاجة الناس فالضرر الحاصل بترك التأمين أكثر من الضرر الحاصل في الوقوع
(1)
الغرر وأثره في العقود (ص: 600) الطبعة الثانية.
(2)
الحوافز التجارية (ص: 34).
في الغرر، والتاجر اليوم يختلف كثيرًا عن التاجر بالأمس، وقد أصبح الكون كالقرية الواحدة بفضل سهولة الاتصال، وتشابك المصالح، والمنتج الذي ينزل لأول مرة في أمريكا أو في أوربا يعرض بنفس اليوم في دبي وفي عواصم العالم المختلفة، والمخاطر التي تحيط بالتاجر اليوم لا تقارن بالمخاطر التي تحيط به بالأمس، وإذا علمنا أن الشخص قد يعرض تجارته للإفلاس، وينتهي به الحال إلى دخول السجن، خاصة مع كثرة الحوادث. والسجن لا يعطل المسجون وحده، بل تتضرر أسرته، ممن يقوم على إعالتها، والنفقة عليها.
وما تنفقه الدولة على سجناء الحوادث، وما تسخره من إمكانيات للقيام على السجناء ربما يفوق بكثير الخسائر التي تدفعها شركات التأمين للمستأمنين، وقد لا يحمي التأمين التاجر فحسب، بل يحمي أسواق المسلمين من الكوارث، ويضمن الاستقرار لها.
ولذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين: لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها - يعني: شجر الحرم، قال رجل من قريش: إلا الإذخر، فإنما نجعله لبيوتنا، وقبورنا. فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر
(1)
.
فدل على أن الشريعة قد اعتبرت حاجة الناس في الترخيص لهم، وإن كان في ذلك ما يدعو إلى التحريم إذا كانت حاجة الناس عامة.
ويظهر ذلك جليًا في عقد الجعالة، فإن عقد الجعالة فيه غرر واضح، فإن قول القائل: من رد علي بعيري الشارد فله كذا، فالباحث عنه، قد يجده، وقد لا يجده، وهو غرر في وجوده، وهو أشد أنواع الغرر. وقد يعمل قليلًا لمدة قصيرة ويستحق الجعل، وقد يعمل كثيرًا، ولمدة طويلة، ومع ذلك لا يجده، ولا
(1)
صحيح البخاري (112)، ومسلم (1355).
يستحق الجعل، وهذا غرر في أجله، وهو غرر مؤثر في بطلان العقد. وقد يقول القائل: من وجد سيارتي المسروقة فله عشر قيمتها، فهذا جائز، ولو لم يعلم الطرفان قيمة السيارة، فالغرر في الجعالة غرر في حصول الشيء، وغرر في مقدار العمل، وغرر في أجله، ولم يمنع هذا الغرر جواز هذه المعاملة، لما كانت الحاجة قائمة إلى عقد الجعالة، وهي من عقود المعاوضات، وليست من عقود التبرعات.
والذي ينبغي للفقيه أن يقف على مقدار حاجة السوق إلى التأمين، فإن غالب الفقهاء إن لم يكن كلهم، لا يمارسون التجارة بمفهومها الواسع من إيراد، أو تصدير، فاليوم لا يمكنك أن تصدر أو تستورد شيئًا، إلا عن طريق التأمين، والتاجر اليوم يغامر مغامرة كبيرة، وهو يحمل بضاعته من شتى أصقاع الأرض، ليأتي بها إلى سوق بلاده، فحاجة السوق إلى هذه المعاملة، ومقدار الضرر بمنعها، إنما يقدره التجار المسلمون، وليس الفقهاء المنشغلون بمسائل العلم عن الاطلاع على حاجة السوق، وربما كنت في يوم من الأيام وأنا أقرأ عبارة لابن القيم لم ترق لي، وعندما بحثت في التأمين اشتدت حاجتي إليها للاستدلال بأن الفقيه بحاجة إلى تقدير التاجر، فهو أعلم منه بما يحتاجه السوق، وما يتضرر منه التجار المسلمون لو منعوا من هذه المعاملة.
يقول ابن القيم: «قول القائل: إن هذا غرر ومجهول، فهذا ليس حظ الفقيه، ولا هو من شأنه، وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك، فإن عدوه قمارًا، أو غررًا، فهم أعلم بذلك، وإنما حظ الفقيه يحل كذا؛ لأن الله أباحه، ويحرم كذا؛ لأن الله حرمه، وقال الله وقال رسوله، وقال الصحابة، وأما أن هذا يرى خطرًا، وقمارًا، وغررًا، فليس من شأنه، بل أربابه أخبر بهذا منه، والمرجع إليهم فيه، كما يرجع إليهم في كون هذا الوصف عيبًا، أم لا، وكون هذا البيع