الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن التصرية، وأثبت للمشتري الخيار إذا وقع البائع في النهي، وثبوت الخيار فرع عن صحة البيع فيهما، فدل ذلك على أن التحريم والصحة قد يجتمعان، ولا تلازم بين النهي، والفساد، وإذا كان لا تلازم بين النهي والفساد، لم تكن صيغة النهي وحدها دالة على الفساد، وإنما تدل على التحريم، والممنوع أن يكون الشيء منهيًا عنه، ومأمورًا به في ذات الوقت، فيمتنع أن يقال: حرمت عليك الطلاق في حال الحيض، وأمرتك به، وأبحته لك، وأما إذا قال: حرمت عليك الطلاق في الحيض، فإن فعلت فقد وقع الطلاق، وأنت آثم، وحرمت عليك الصلاة في الثوب المغصوب، فإن فعلت صحت الصلاة، وأنت آثم، فشيء من هذا ليس بممتنع
(1)
. فدل على أن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه في كل حال.
وتعقب ذلك:
قال شيخنا ابن عثيمين: «إن قال قائل: لما لا تقولون: هو حرام، ولكنه صحيح، كما قلتم في الجلب.
فالجواب: الفرق بينهما ظاهر.
أولًا: لأن حديث التلقي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار). فثبوت الخيار فرع عن صحة العقد، فيكون في الحديث دليل على أن العقد صحيح.
ثانيًا: أن النهي عن التلقي ليس نهيًا عن العقد لذاته، ولكنه نهي عن العقد لحق الغير، حيث إنه ربما يكون فيه خديعة للقادم، فيشتريه المتلقي بأقل، ولهذا جعل الحق له في إمضاء البيع، أو فسخه، وأما مسألتنا فإن النهي عن البيع
(1)
المستصفى (ص:221).
بعينه، وما نهي عن البيع بعينه لا يمكن أن نقول: إنه صحيح، سواء في العبادات، أو في المعاملات؛ لأن تصحيحنا لما جاء فيه النهي بعينه إمضاء لهذا الشيء الذي نهى الشارع عنه؛ لأن الذي نهى الشارع عنه يريد منا أن نتركه، ونتجنبه، فإذا حكمنا بصحته فهذا من باب المضادة لأمر الله سبحانه وتعالى .. »
(1)
.
وقول شيخنا عليه رحمة الله بأن النهي عن البيع لعينه، كأنه رأى أن النهي عائد إلى ذات البيع، وليس لأمر خارج، والحقيقة أن النهي وإن كان نهيًا عن البيع، لكنه معلل بأمر خارج، فليس النهي عن البيع عند نداء الجمعة، كالنهي عن بيع الغرر، والنهي عن الربا، والنهي عن القمار، فهذه البيوع هي البيوع المنهي عنها لذاتها، ولذلك لو انشغل عن السعي للصلاة بغير البيع كان منهيًا عنه أيضًا، مما يدل على أن النهي ليس لذات البيع، فالعلة من الأمر بترك البيع منصوص عليها في سياق الآية، فقوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] يعلم منه التعليل للنهي عن البيع بكونه مانعًا من السعي إلى الجمعة، إذ لو قدرنا النهي عن البيع مطلقًا من غير رابطة الجمعة كان الكلام غير منتظم.
فقوله تعالى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة، وعدم التفريط فيها، وقوله:{وذروا البيع} [الجمعة:9] جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة ما يشغل عن السعي إليها، لا أن البيع تحول إلى منهي عنه لذاته، والله أعلم.
ولذلك قال الجصاص: «لما لم يتعلق النهي بمعنى في نفس العقد، وإنما تعلق بمعنى في غيره، وهو الاشتغال عن الصلاة، وجب أن لا يمنع وقوعه
(1)
الشرح الممتع (8/ 190).