الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع السادس
أن يكون العقد مشروعًا والباعث عليه غير مشروع
[م-378] من البيوع التي منعها بعض الفقهاء دفعًا للضرر بيع العنب لمن يعصره خمرًا، ومثله بيع السلاح في زمن الفتنة، ومثله كل بيع يكون في نفسه مشروعًا، والباعث على البيع غير مشروع، فالعنب بيعه مشروع، ولكن الباعث على الشراء غير مشروع، وهو عصره ليتخذ خمرًا، وكذلك بيع السلاح مشروع، ولكن الباعث عليه وهو الظلم، والقتل غير مشروع، ومثل استئجار البيت مشروع، ولكن استئجاره، ليباع فيه الخمر، أو يتخذ محلًا للدعارة غير مشروع، فهل يحرم البيع نظرًا لأن الباعث على هذا الفعل غير مشروع، أو لا يحرم باعتبار أن البيع أصله مباح، والباعث نية في قلب العاقد، لا أثر لها في صحة العقد أو بطلانه.
ولتحرير الخلاف في هذه المسألة نذكر محل الاتفاق، ثم نذكر محل الخلاف:
إذا كانت صيغة العقد (الإيجاب والقبول) قد تضمنت النص الصريح على ذكر الباعث على هذا العقد، وكان الباعث غير مشروع فالبيع لا يجوز.
فإذا قال: بع عليَّ عصيرًا، لأتخذه خمرًا، أو قال: بع علي سلاحًا، لأقتل به معصومًا، أو قال: بعني بيتك، لأتخذه مكانًا لبيع الخمور، أو لأقيم عليه كنيسة، أو بع علي خشبتك، لأعمل منها صليبًا، أو بع علي هذا البيض، للعب القمار، أو غير ذلك من الأمور غير المشروعة، فالبيع، والإجارة في مثل هذه الحالة لا يصحان قولًا واحدًا؛ لأن البيع لو صح في مثل هذه الحالة، لكان ذلك
مضافًا إلى الشارع من حيث إنه شرع عقدًا موجبًا للمعصية، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا
(1)
.
(1)
جاء في تبيين الحقائق للزيلعي (5/ 125): «ولا يجوز - يعني الاستئجار - على الغناء والنوح والملاهي؛ لأن المعصية لا يتصور استحقاقها بالعقد، فلا يجب عليه الأجر من غير أن يستحق هو على الأجير شيئًا، إذ المبادلة لا تكون إلا باستحقاق كل واحد منهما على الآخر، ولو استحق عليه للمعصية لكان ذلك مضافًا إلى الشارع من حيث إنه شرع عقدًا موجبًا للمعصية تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا» .
فمن اشترى الجارية، وكشف عن غرضه منها، وهو كونها مغنية، فإن هذا الباعث غير مشروع، ويكون العقد فاسدًا، فإن كان ذكر الغناء ليس لبيان الغرض من العقد، وإنما هو لبيان العيب، فأراد البائع أن يبرأ من هذا العيب، فاشترط البراءة على المشتري، فإن العقد صحيح؛ لأن العقد لم يكن الباعث عليه كونها مغنية.
ويقول الدردير من المالكية: «ولا يصح كراء دار، لتتخذ كنيسة، أو مجمعًا لفاسق، أو خمارة، ويفسخ متى اطلع عليه .. » .
فقوله: لتتخذ كنيسة يريد بذلك أنه نص على هذا الغرض في العقد، وإلا لو لم ينص، وظهر من المستأجر ذلك لم يفسخ العقد عندهم.
جاء في التاج والإكليل (5/ 435): «وإذا ظهرت من مكتري الدار خلاعة، وفسق، وشرب خمر لم ينتقض الكراء، ولكن الإمام يمنعه من ذلك، ويكف أذاه عن الجيران
…
».
ويقول الخرشي (7/ 33): «الإجارة لا تنفسخ بظهور المستأجر فاسقًا يشرب فيها الخمر، أو يزني، أو نحو ذلك .. » .
ويقول ابن قدامة في المغني (5/ 321): «ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة، أو بيعة، أو يتخذها لبيع الخمر، أو القمار» ثم علل المنع بقوله: «فعل محرم، فلم تجز الإجارة عليه كإجارة عبده للفجور» .
ولأن تمكين العاقد من فعله المحرم إعانة له على ذلك الباطل، والإعانة على الحرام تجعله شريكًا له في الفعل.
قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
الحالة الثانية: إذا لم يذكر الباعث على العقد في صيغة العقد، ولكن علم البائع، أو غلب على ظنه من القرائن، وظروف الحال، أن المشتري يريد بالعنب عصره خمرًا، كما لو كان المشتري للعنب شخصًا يتجر بالخمور، فهل يصح البيع والحالة هذه.
هذه المسألة إن كان الأمر من قبيل الشك، والاحتمال فلا يحرم البيع.
(1)
.
وإن كان البائع علم قصد المشتري إما بقرائن خاصة، أو بأخبار صحيحة، أو غلبة ظن
(2)
، ففي هذه المسألة خلاف بين الفقهاء:
(1)
المغني (4/ 155).
(2)
جاء في الفروع (4/ 42)«ولا يصح بيع ما قصد به الحرام، كعصير لمتخذه خمرًا قطعًا نقل الجماعة: إذا علم. وقيل: أو ظنا، واختاره شيخنا» . يعني ابن تيمية.
الظن فيما تعذر فيه اليقين يقوم مقامه في الأحكام من عبادات، ومعاملات، ولذلك نأخذ بالظن في السهو في الصلاة، وفي غيره كالرمي، والطواف، بل إن الظن يطلق أحيانًا ويراد به العلم، قال تعالى:{إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَه} [الحاقة:20] وقال سبحانه: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} [التوبة:118].
فقيل: البيع باطل، وهو مذهب المالكية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
وقيل: البيع صحيح، وهل يحرم البيع مع الصحة، قيل: إن تحقق أنه يشتري المباح لفعل المعصية حرم على الصحيح، وإلا كره، وهذا مذهب الشافعية
(3)
،
وهو قول الحسن، وعطاء، والثوري
(4)
.
(1)
وانظر مواهب الجليل (4/ 254)، حاشية الدسوقي (3/ 7)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (3/ 20).
(2)
مسائل أحمد رواية صالح (2/ 141)، المبدع (4/ 42)، الإنصاف (4/ 327)، الفروع (4/ 42)،كشاف القناع (3/ 181)، مجموع الفتاوى (29/ 236).
(3)
قال الشافعي في الأم (3/ 74): «أكره للرجل أن يبيع العنب ممن يراه أنه يعصره خمرًا، ولا أفسد البيع إذا باعه
…
».
وقال النووي في المجموع (9/ 432): «قال أصحابنا: يكره بيع العصير لمن عرف باتخاذ الخمر والتمر لمن عرف باتخاذ النبيذ والسلاح لمن عرف بالعصيان بالسلاح فإن تحقق اتخاذه لذلك خمرًا ونبيذًا، وأنه يعصي بهذا السلاح ففي تحريمه وجهان حكاهما ابن الصباغ والمتولي والبغوي في شرح المختصر والروياني وغيرهم.
أحدهما: نقله الروياني والمتولي عن أكثر الأصحاب: يكره كراهة شديدة ولا يحرم.
وأصحهما: يحرم، وبه قطع الشيخ أبو حامد، والغزالي في الإحياء، وغيرهما من الأصحاب، فلو باعه صح على الوجهين وإن كان مرتكبًا للكراهة أو التحريم قال الغزالي في الإحياء: وبيع الغلمان المرد الحسان لمن عرف بالفجور بالغلمان، كبيع العنب للخمار قال: وكذا كل تصرف يفضي إلى معصية».
(4)
المغني (4/ 154).