الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الرابع
حكم العقد إذا تضمن شرطًا جزائيًا
الشرط الجزائي بهذا المصطلح حديث النشأة، وإن وجد كلام لبعض الفقهاء المتقدمين في بعض صوره، كما سيأتي نقله إن شاء الله تعالى، وإذا كان الشأن كذلك فسوف يكون بحثنا فيه من خلال كلام العلماء المعاصرين، كالمجامع الفقهية، ومراكز البحوث الفقهية، والنظر إلى قواعد ومذاهب الأئمة في الشروط، وهل مثل هذا الشرط يتمشى مع قواعد تلك المذاهب في الشروط الجعلية، والقياس عليها أو لا.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشرط الجزائي متعدد الصور، منها ما يكون ممنوعًا باتفاق، ومنها ما يكون جائزًا عند كثير من العلماء المعاصرين، لذا سوف نبحث هذه الصور المتعددة صورة صورة.
* * *
المسألة الأولى
الشرط الجزائي في مقابل التأخير عن تنفيذ الأعمال
[ن-43] محل الالتزام بين المتعاقدين تارة يكون عملًا من الأعمال، وتارة يكون دينًا من الديون بسبب بيع أو قرض.
وقد يكون العقد الواحد ذا وجهين كعقد الاستصناع، فهو من جهة المستصنع يكون التزامه دينًا (مبلغًا من النقود) ومن جهة الصانع يكون التزامه عملًا، والكلام في هذا المبحث في حكم الشرط الجزائي إذا كان محل الالتزام عملًا من الأعمال.
مثاله: أن يلتزم المقاول أو المورد أو الصانع في عقود المقاولة أو التوريد أو الاستصناع أن يدفع مبلغًا معينًا عن كل يوم، أو عن كل أسبوع، أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول أو المورد أو الصانع عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه.
مثال آخر: أن يشترط المؤجر للأرض الزراعية أن تسلم الأرض إليه خالية من الزراعة عند انتهاء مدة الإجارة، فإذا أخل المستأجر بهذا الشرط فإنه يلتزم بدفع مبلغ معين لصاحب الأرض.
فما حكم اشتراط مثل هذا الشرط إذا تضمنه العقد.
نستطيع أن نقول: إن هذا الشرط يرجع إلى مسألة متقدمة، وهو هل الأصل في الشروط المنع والبطلان، أو الأصل الصحة والجواز.
ففي المسألة قولان:
الأول: يرى أن الأصل في الشروط المنع والبطلان، حتى يقوم دليل على جوازه وصحته، ومثل هذا المذهب لا يجيز مثل هذا الشرط جزمًا، ومن هؤلاء ابن حزم رحمه الله
(1)
.
ويستدل بأدلة كثيرة سبق ذكرها والجواب عنها فيما تقدم، من أهمها:
(ح-390) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها في قصة شراء بريرة، وفي الحديث:
(2)
.
قال ابن حزم: «فهذه الأخبار براهين قاطعة في إبطال كل عهد، وكل عقد، وكل وعد، وكل شرط ليس في كتاب الله الأمر به، أو النص على إباحة عقده؛ لأن العقود والعهود والأوعاد شروط، واسم الشرط يقع على جميع ذلك
(3)
.
وقيل: الأصل في الشروط الصحة والجواز حتى يقوم دليل شرعي على المنع والبطلان، وهذا يذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة
(4)
، ومثل هؤلاء يمكن لهم أن يذهبوا إلى جواز الشرط الجزائي.
وإذا أردنا أن نعرف حكم الشرط الجزائي بالنظر إلى قواعد كل مذهب وموقفه من الشروط الجعلية.
(1)
المحلى، مسألة (1447).
(2)
صحيح البخاري (2168)، ومسلم (1504).
(3)
الإحكام لابن حزم (2/ 599).
(4)
مجموع الفتاوى (29/ 132) ..
فيمكن القول بأن مذهب الحنفية والشافعية لا يقولون بصحة الشرط الجزائي؛ لأن الأصل في مذهبهم النهي عن بيع وشرط، ويروون حديثًا ضعيفًا بهذا اللفظ، وقد سبق تخريجه.
فالشافعية لا يستثنون من هذا إلا الشروط التي يقتضيها العقد، مثل التسليم، والانتفاع، والشروط التي فيها مصلحة للعقد كالرهن والتأجيل والكفيل، والخيار، ويلحق به إذا باعه بشرط العتق.
وما سوى ذلك من الشروط فهي باطلة عندهم. ويدخل في ذلك الشرط الجزائي، إذا اعتبرنا أن الشرط الجزائي لا يقتضيه العقد، وليس بمنزلة الرهن والضمان، والأجل.
يقول الغزالي: «الثامن (نهى عن بيع وشرط) فاقتضى مطلقه امتناع كل شرط في البيع، والمفهوم من تعليله أنه إذا انضم شرط إلى البيع بقيت معه علقة بعد العقد، يتصور بسببها منازعة، ويفوت بفواتها مقصود العاقد، وينعكس على أصل العقد، فيحسم الباب، ولم يكن محذور هذا النهي منفصلًا عن العقد، فيدل على فساده أو فساد الشرط لا محالة
…
ثم ذكر ما يستثنى من حديث النهي عن بيع وشرط»
(1)
.
ويقول الشيرازي: «إذا شرط في المبيع شرطًا نظرت:
فإن كان شرطًا يقتضيه البيع، كالتسليم، والرد بالعيب، وما أشبههما لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله.
فإن شرط ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة: كالخيار، والأجل، والرهن، والضمين، لم يبطل العقد؛ لأن الشرع ورد بذلك على ما نبينه في
(1)
الوسيط (3/ 73).
مواضعه إن شاء الله، ولأن الحاجة تدعو إليه، فلم يفسد العقد، فإن شرط عتق العبد المبيع، لم يفسد العقد؛ لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة لتعتقها ...... فإن شرط ما سوى ذلك من الشروط التي تنافي مقتضى البيع، بأن باع عبدًا بشرط ألا يبيعه، أو لا يعتقه، أو باع دارًا بشرط أن يسكنها مدة، أو ثوبًا بشرط أن يخيطه له، أو نعلة بشرط أن يحذوها له، بطل البيع، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط
…
»
(1)
.
ولا يختلف مذهب الحنفية عن مذهب الشافعية في بطلان الشرط في البيع؛ لأنهم يذهبون مع الشافعية إلى اعتماد ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن بيع وشرط، إلا أن الحنفية يختلفون عن الشافعية في تقديم الشرط الذي جرى به العرف، وكان عليه عمل الناس، ويقدمونه على القياس، فإذا جرى العرف على اعتبار الشرط الجزائي في العقود، وجرى التعامل به بين الناس أمكن للمذهب الحنفي أن يتسع لقبول القول بالشرط الجزائي استحسانًا وإن كان على خلاف القياس عندهم. وهذه مرونة في المذهب يختلف فيها عن المذهب الشافعي.
فقد ذكر الكاساني أن الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، ولكن للناس فيه تعامل، وفيه عرف ظاهر أن هذا الشرط فاسد بالقياس عندهم، ولكنهم يقولون بجوازه استحسانًا؛ لأن العرف يقضي على القياس، ويسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع
(2)
.
ولو أن مذهب الحنفية جعلوا عمل الصحابة يسقط القياس لكان هذا جيدًا، أما عمل الناس من غير الصحابة فليس بحجة، وقد يتعامل الناس بما يخالف نصًا شرعيًا، أيكون ذلك حجة على أحد.
(1)
المهذب (1/ 268).
(2)
انظر بدائع الصنائع (5/ 169 ـ 172).
وأما مذهب المالكية فإن الباحث لا يستطيع أن يخرج بقاعدة من تعاملهم مع الشروط يمكنه أن يتلمس صحة هذا الشرط أو بطلانه عندهم، وهذا ما عبر عنه ابن رشد الحفيد، حيث يقول في بداية المجتهد: «وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والبيع معًا. وشروط تجوز هي والبيع معًا. وشروط تبطل هي، ويثبت البيع. وقد يظن أن عنده قسمًا رابعًا: وهو أن من الشروط ما إن يمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بَيِّنة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع: وهما الربا والغرر، وإلى قلته، وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصًا في الملك، فما كان دخول هذه الأشياء كثيرًا من قبل الشرط أبطله، وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه، وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطًا أبطل الشرط، وأجاز البيع
…
»
(1)
.
ويفهم من كلام ابن رشد أن يسير الربا يجوز كما يجوز يسير الغرر، والحق أن يسير الربا محرم، ويسير الغرر جائز بالإجماع.
وأما مذهب الحنابلة فهم أوسع المذاهب في الشروط، ويمكن تخريج صحة الشرط الجزائي على قواعد المذهب، والله أعلم.
(1)
بداية المجتهد (2/ 120).