الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الأول
أن يكون المسلم فيه دينًا
قال القرافي: ما لا يكون في الذمة لا يكون دينًا
(1)
.
[م-712] يشترط بالاتفاق أن يكون المسلم فيه دينًا، وإذا قلنا:(أن يكون دينًا) فإن ذلك يغني عن قولنا: (موصوفًا في الذمة) فهذه الجملة من باب التوكيد؛ لأن الدين لا يكون إلا موصوفًا في الذمة.
فالديون لا تثبت إلا في الذمم، بخلاف الأعيان، فإنها تثبت في الأيدي القابضة لها، وليس محلها الذمة.
قال القرافي: «ما لا يكون في الذمة لا يكون دينًا»
(2)
.
وما في الذمة لا يتعين لطالبه إلا إذا قبضه، فالديون في الفقه تقابل الأعيان، ومتى تعين الدين فقد خرج من كونه دينًا، وبناء عليه فإن الدين لا يكون أمانة؛ لأن الأمانة لا تكون مضمونة في الأصل، والديون مضمونة.
ويتفرع عن ذلك أن ما كان في الذمة لا يكون إلا موصوفًا؛ لأنه حق متعلق بشيء غير معين، فمن كان عليه دين فله قضاؤه من أي ماله شاء، أما الأعيان فإنها تستوفى بذاتها.
وكل حق ثابت في الذمة لا يبطل بتلف المال، كالدين، والقرض؛ لأنه لم يتعلق بعين معينة. وكل حق تعلق بالعين ـ كالوديعة، والمضاربة ـ فإنه يبطل بتلف المال.
(1)
الفروق (3/ 259).
(2)
الفروق (3/ 259).
إذا علم ذلك فقد أجمع الفقهاء على أن المسلم فيه لا بد أن يكون دينًا موصوفًا.
وقولنا (دينًا موصوفًا) أخرج المعين، ولو كان موصوفًا؛ لأنه ليس بدين.
(1)
.
وجاء في شرح ميارة: «لا خلاف أن من شروط السلم أن يكون متعلقًا بالذمة»
(2)
.
وبناء عليه فلا يجوز أن يكون المسلم فيه معينًا؛ لأن السلم وضع لبيع شيء في الذمة، بثمن معجل، ومقتضاه ثبوت المسلم فيه دينًا في ذمة المسلم إليه، ومحله ذمة المسلم إليه، فإذا كان المسلم فيه معينًا تعلق حق رب السلم بذاته، وكان محل الالتزام ذلك الشيء المعين، لا ذمة المسلم إليه، ومن هنا كان تعيين المسلم فيه مخالفًا لمقتضى العقد.
فإذا جعل السلم في شيء معين فلا يخلو: إما أن يكون هذا الشيء المعين مملوكًا لغيره، أو مملوكًا له وقت العقد.
فإن كان مملوكًا لغيره وقت العقد لم يصح العقد؛ لأنه باع ما لا يملك، وهذا مجمع على بطلانه، وقد تكلمنا عنه في مسألة بيع ما ليس عند البائع فأغنى عن إعادة الكلام عليه هنا.
وإن كانت السلعة مملوكة له، فإن كان التسليم حالًا فإن العقد صحيح، ولكن لا ينعقد سلمًا، وإنما هو بيع من البيوع.
(1)
المنتقى (4/ 292).
(2)
شرح ميارة (2/ 79).
وإن كان التسليم مؤجلًا، فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز التأجيل في الأعيان؛ لأن من شرط المؤجل عند الجمهور أن يكون دينًا موصوفًا في الذمة، فلا يجوز التأجيل في المعقود عليه (ثمنًا، أو مثمنًا) إذا كان معينًا.
لأن تأجيل الأعيان ينطوي على غرر، حيث من الممكن أن يهلك الشيء المعين قبل حلول وقت أدائه، فيستحيل تنفيذه، بخلاف ما لو كان المسلم فيه موصوفًا في الذمة، فإن الوفاء يكون بأداء أية عين يتحقق فيها الأوصاف المتفق عليها.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
فالآية تدل على جواز التأجيل في الديون، ولم يرد في النصوص ما يشير إلى جواز تأجيل الأعيان، ولهذا قال الكاساني في البدائع «التأجيل يلائم الديون، ولا يلائم الأعيان»
(1)
.
وقال ابن عابدين: «الأعيان لا تقبل التأجيل»
(2)
.
(1)
(2)
حاشية ابن عابدين (5/ 158)، وانظر فتح القدير (6/ 448)، الفتاوى الهندية (3/ 4).
وقال الرملي: «الأعيان لا تقبل التأجيل ثمنًا، ولا مثمنًا»
(1)
.
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: «وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر الصفقة»
(2)
.
(3)
.
(4)
.
وعلل الحنفية والشافعية المنع من التأجيل في المعين، بأنه إنما شرع الأجل لتحصيل المبيع، فإذا كان معينًا فقد تم تحصيله، فلا حاجة له.
(5)
.
(1)
نهاية المحتاج (3/ 454).
(2)
بداية المجتهد (2/ 117)، وانظر المنتقى للباجي (5/ 115).
(3)
المدونة (4/ 27).
(4)
المجموع (9/ 413).
(5)
العناية (6/ 448).
وقال السيوطي: «الأجل شرع رفقًا للتحصيل، والمعين حاصل»
(1)
.
وعلل السمرقندي بأن الأجل في المعين لا يفيد، فقال:«ومنها: أن يشترط الأجل في المبيع العين، أو الثمن العين؛ لأن الأجل في الأعيان لا يفيد، فلا يصح، فيكون شرطًا لا يقتضيه العقد، فيفسد البيع»
(2)
.
وهذا الكلام فيما أرى ليس على إطلاقه، وإذا جاز على الصحيح: أن يبيع الدار، ويستثني سكناها مدة معينة، وهذا يقتضي عدم تسليم المعين، جاز الأجل في المعين، وقد تكلمت عن هذه المسألة في باب الشروط في البيع، والحمد لله.
كما تجوز على الصحيح الإجارة على مدة لا تلي العقد، وهذا يعني تأخير تسليم المعين، وسيأتي إن شاء الله تعالى بحث هذه المسألة في كتاب الإجارة، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
* * *
(1)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 329).
(2)
تحفة الفقهاء (2/ 49).