الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا كان المتعاقد الأصلي خاضعًا لإشراف رب العمل وإدارته، ويملك نفعه في الزمن المتفق عليه، وهو ما يسمى بالأجير الخاص، فليس له أن يتعاقد من الباطن؛ لأن العقد قد ورد على عمله بنفسه، فلا يقوم غيره مقامه، فأشبه ما لو اشترى شيئًا معينًا لم يجز أن يدفع إليه غيره، ولا يبدله، ولا يلزم المشتري قبوله فكذلك المستأجر
(1)
.
وأما إذا كان عقد المقاولة مطلقًا، وكان شخص المقاول غير مقصود في المقاولة، وإنما المقصود القيام بالعمل سواء قام به بنفسه أو بغيره، ولم يكن المقاول من الأجير الخاص فهل للمقاول أن يعهد إلى مقاول آخر للقيام بالعمل خاصة أن بعض الأعمال لا يمكن للمقاول أن يقوم بها بنفسه كما لو كانت المقاولة كبيرة متعددة الأعمال، كإنشاء الجسور، وتعبيد الطرق وأعمال البناء حيث تتطلب مجموعة من الحرف المختلفة التي تتطلب أن يقوم بها مجموعة من العمال، فما حكم أن يعهد المقاول إلى مقاول آخر يقوم بكل عمله أو بعضه؟
وللجواب عن ذلك نقول:
يسري على عقد المقاولة من الباطن نفس الحكم الذي قيل في حق المقاول الأصلي.
فإن كان المقاول الثاني يقدم العمل والمواد معًا كان العقد مع المقاول الثاني عقد استصناع، فيأخذ حكم عقد الاستصناع عند العلماء.
وقد ذهب جمهور الحنفية إلى القول بجوازه، ولم يخالف في ذلك إلا زفر
(2)
.
(1)
تبيين الحقائق (5/ 112)، حاشية ابن عابدين (6/ 18)، مواهب الجليل (5/ 395)، حاشية الرملي بهامش أسنى المطالب (2/ 423)، الإنصاف (6/ 66)، المبدع (5/ 106).
(2)
فتح القدير (7/ 114)، البحر الرائق (6/ 185)، مجمع الأنهر (2/ 106)، تبيين الحقائق (4/ 123).
وقيل: لا يصح إلا بشروط السلم، وهذا مذهب الجمهور، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة
(1)
.
وقيل: لا يصح مطلقًا، وهو أحد الوجهين في مذهب الحنابلة.
جاء في الإنصاف: «ذكر القاضي وأصحابه: أنه لا يصح استصناع سلعة؛ لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم، واقتصر عليه في الفروع
…
»
(2)
.
(1)
خصص المالكية جزءًا من كتاب السلم، للسلم في المصنوعات، وضربوا أمثلة لما كان يصنع في عصرهم، كالسيف، والسرج، وأجازوه بشرط السلم، وهو تقديم الثمن، وذكر الأجل، وكون الأجل معلومًا، ولا يعين العامل، ولا المعمول منه. انظر مواهب الجليل (4/ 539 - 540).
وأما الشافعية فمذهبهم قريب من مذهب المالكية، فأدرجوا السلم في الاستصناع، وأجازوا السلم في المصنوع فيما يأتي:
ـ فأجازوا السلم في المصنوع في قوالب واحدة، لا تختلف وحداتها دون المصنوع في اليد. قال النووي في الروضة (4/ 28):«لا يجوز السلم في الحِبَاب والكيزان، والطسوت، والقماقم، والطناجير، والمنائر، والبرام المعمولة لندور اجتماع الوزن مع الصفات المشروطة، ويجوز السلم فيما يصب منها في القالب لعدم اختلافه، وفي الأسطال المربعة» .
ـ كما أجاز الشافعية السلم فيما صنع من جنس واحد فقط، كالحديد أو النحاس، ولم يجيزوه فيما يجمع أجناسًا مقصودة لا تتميز، كالطست يكون من الحديد والنحاس.
وأما ما يجمع أجناسًا مقصودة متميزة كالقطن والصوف، فهو موضع خلاف بينهم، والراجح عندهم الجواز بشرط علم العاقدين بقدر كل واحد منهما. انظر فتح الوهاب (3/ 242)، المهذب (1/ 298)، أسنى المطالب (2/ 130 - 131)، حاشيتي قليبوبي وعميرة (2/ 312)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (5/ 403).
ومذهب الحنابلة فيه وجهان: أحدهما قريب من مذهب الشافعية، قال في الإنصاف (5/ 91): «ولا يصح يعني: السلم - فيما يجمع أخلاطًا غير متميزة، كالغالية، والند، والمعاجين ونحوها بلا نزاع أعلمه
…
» وانظر المغني (4/ 185 - 186).
الوجه الثاني: لا يرون السلم في الاستصناع، انظر الإنصاف (4/ 300).
(2)
الإنصاف (4/ 300).
وقد ذكرنا أدلة كل قول في عقد الاستصناع فأغنى عن إعادته، ورجحت مذهب الحنفية.
وأما إذا كان التزام المقاول الباطن بتقديم العمل دون المواد، فقد يكون أجيرًا خاصًا، وقد يكون أجيرًا مشتركًا بحسب طبيعة العقد معه.
فإن كان العقد واردًا على عمله، ومنافعه ليست مستحقة للمقاول الأصلي، فهو من قبيل الأجير المشترك.
وإن كان العقد واردًا على منفعته، بحيث تكون منافعه مستحقة للمقاول الأصلي خلال مدة الإجارة فإن المقاول الثاني من قبيل الأجير الخاص، ولا مانع من عمل مجموعة من الأجراء الخاصين تحت يد الأجير المشترك، كالخياط يعمل عنده مجموعة من الخياطين كأجراء خاصين له.
والأجير المشترك يستحق الأجرة بالعمل، لا بتسليم النفس؛ لأن العقد وارد عليه، فلا يستحق أجرة إذا لم يعمل، ويستحق من الأجرة بقدر ما عمل، وأما الأجير الخاص فيستحق الأجرة بالوقت دون العمل، فإذا سلم نفسه في الوقت استحق الأجرة، سواء أنجز العمل كله أو بعضه؛ وسواء عمل أو لم يعمل؛ لأن المعقود عليه هو منفعته.
وقد ذهب الأئمة الأربعة إلى أن للأجير المشترك إنابة غيره ليقوم بعمله إذا لم يشترط عليه في العقد أن يعمل بنفسه، وكان المطلوب في الإجارة تحصيل العمل لا عين العامل.
جاء في بدائع الصنائع: «وللأجير أن يعمل بنفسه وأجرائه إذا لم يشترط عليه في العقد أن يعمل بيده؛ لأن العقد واقع على العمل، والإنسان قد يعمل بنفسه، وقد يعمل بغيره؛ ولأن عمل أجرائه يقع له، فيصير كأنه عمل بنفسه إلا إذا شرط
عليه عمله بنفسه؛ لأن العقد وقع على عمل من شخص معين، والتعيين مفيد؛ لأن العمال متفاوتون في العمل فيتعين
…
»
(1)
.
وذهب الشافعية إلى أن الإجارة إن كانت واردة على عين الأجير وجب عليه أن يقوم بالعمل بنفسه، وإن كانت الإجارة واردة على ذمته، فله تحصيل العمل بنفسه وبغيره، وهذا التفصيل غير مناف لكلام الأئمة.
لأن الإجارة إن كان المقصود منها تحصيل العمل بغض النظر عن العامل فهي إجارة واردة على الذمة، وبالتالي له أن يقوم بنفسه وبغيره، وإن كانت عين الأجير محل اعتبار في العقد كالرسام، والطبيب كانت الإجارة واردة على عين الأجير، وتعين العمل عليه بنفسه، والله أعلم.
* * *
(1)
بدائع الصنائع (4/ 208)، وانظر مواهب الجليل (5/ 395)، البهجة شرح التحفة (2/ 182)، نهاية المحتاج (5/ 264)، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج (5/ 281)، مغني المحتاج (2/ 334)، المغني (5/ 307)، مطالب أولي النهى (3/ 684)، الإنصاف (6/ 44 - 45)، المبدع (5/ 89).