الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاصة، وأطلقنا عليه مسمى خاصًا، وهو عقد الاستصناع، فتداخل العمل مع العين صيرهما شيئًا واحدًا، وهو بيع عين موصوفة في الذمة يشترط لها العمل، والله أعلم.
القول الرابع:
قالوا: المعقود عليه هو العين دون العمل، وإنما العمل شرط فيه. وهذا هو المذهب عند الحنفية
(1)
.
وقولنا (عين) ليس معناه أنه معين، وإنما هي عين موصوفة في الذمة.
يقول ابن عابدين: «قوله: والمبيع: هو العين لا عمله، أي أنه بيع عين موصوفة في الذمة، لا بيع عمل، أي لا إجارة على العمل .. »
(2)
.
فقوله: عين موصوفة في الذمة، يبين أن المراد بالعين: ليس ما يقابل الدين، وإنما المراد بالعين ما يقابل العمل، وأن المقصود بالعين ليس هي مواد الخام، وإنما عين سوف تتشكل بعد الاستصناع، والله أعلم.
هذا هو عقد الاستصناع، والذي تميز به عن عقد البيع، وعن عقد السلم، وعن عقد الإجارة، وأصبح له صورة مستقلة عن سائر هذه العقود:
فحين يكون المصنوع جاهزًا، ويأتي به الصانع، فيبيعه، فهذا بيع مطلق، أو يكون المصنوع جاهزًا، ولكنه غائب عن مجلس العقد، فهذا من بيع العين الغائبة، وليس من الاستصناع في شيء.
وكذلك لو صيغ العقد على أساس الإجارة، كما لو جاء شخص بالمواد
(1)
بدائع الصنائع (5/ 2)، المبسوط (15/ 84)، فتح القدير (7/ 115)، البحر الرائق (6/ 186).
(2)
حاشية ابن عابدين (5/ 225).
الخام، واستأجر الصانع ليصنع له منها شيئًا، فهذه إجارة، وليست من الاستصناع في شيء.
وكذلك لو طلب شخص من آخر ثمرًا أو حبوبًا موصوفة في الذمة، فهذا من قبيل السلم، يجب فيه تقديم الثمن، وسائر شروط السلم.
فالاستصناع: هو أن يطلب شخص من آخر عينًا ليست موجودة، وسيعمل البائع على صنعها، وجميع مواد الخام من الصانع، فهذا العقد بهذه الصورة ليس بيعًا مطلقًا محضًا، ولا إجارة محضة، ولا سلمًا، وإنما هو عقد مستقل، له شروطه الخاصة.
فالعقد: يقوم على تحويل مواد خام عن طريق العمل، وتحويلها إلى عين، تلك العين بعد الاستصناع هي المعقود عليها، وليس المواد الخام، والعمل في العين ليس معقودًا عليه، وإنما هو شرط في البيع، فما لم يشترط فيها العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل
(1)
.
وقد أشكل على بعض الباحثين كون الحنفية تساءلوا في عقد الاستصناع: هل المعقود عليه العين، أم العمل؟ وقد رجحوا أن المعقود عليه: هو العين، وليس العمل، ووجه الإشكال: إذا كان المستصنع معدومًا، فهو ليس عينًا؛ لأن العين: هو المعين، وهو ما يمكن الإشارة إليه، ويكون له ذات، وحيز من الفراغ، كهذا الكرسي، والبيت، والحصان، بينما العين المستصنعة تعلقها
(1)
بدائع الصنائع (5/ 2).
بالذمة؛ لكونها ليست موجودة، ولم يتعلق الحق بشيء بعينه، وما كان متعلقًا بالذمة فهو دين، وليس عينًا.
ولذلك لو استصنع النجار الشكل المطلوب، وباعه على آخر لم يمنع ذلك مانع؛ لأن حق المستصنع متعلق بذمة الصانع، وليس في عين المصنوع.
جاء في العناية: «لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز .. »
(1)
.
وقال السرخسي: «وإن باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع، فبيعه جائز؛ لأنه باع ملك نفسه، فالعقد لا يتعين في هذا المصنوع قبل أن يراه المستصنع .. »
(2)
.
والحق أن هذا الإشكال قائم إلا إذا فهمنا مراد الحنفية بالعين في عقد الاستصناع، فقد يزول الإشكال.
قال السرخسي: «والأصح أن المعقود عليه المستصنع فيه - يعني العين- وذكر الصنعة (العمل) لبيان الوصف
…
»
(3)
.
وجاء في فتح القدير: «المعقود عليه العين دون العمل»
(4)
.
فالمراد: بالعين عندهم باعتبار ما سيكون، والذي حملهم على هذا: أن كلًا من العمل والعين متعلقان بالذمة، فحتى يبينوا أن المعقود عليه هو العين بعد الاستصناع، وأن العقد عقد بيع، وليس المعقود عليه هو العمل، فيكون العقد عقد إجارة أطلقوا كلمة (عين) على أمر متعلق بالذمة، وهو اصطلاح خاص.
(1)
العناية (7/ 116).
(2)
المبسوط (15/ 90).
(3)
المبسوط (12/ 139).
(4)
فتح القدير (7/ 115).
ولذلك يقول ابن عابدين عن عقد الاستصناع: «بيع عين موصوفة في الذمة، لا بيع عمل، أي لا إجارة على العمل .. »
(1)
.
فقوله: عين موصوفة في الذمة، هذا يفصح عن الموضوع، وأن المراد بالعين: ليس ما يقابل الدين، وإنما المراد بالعين ما يقابل العمل (المنفعة)، وأن المقصود بالعين ليس هي مواد الخام، وإنما عين سوف تتشكل بعد الاستصناع، والله أعلم.
وهذا ما نص عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي، حيث جاء فيه:
«عقد الاستصناع عقد وارد على العمل والعين في الذمة، ملزم للطرفين إذا توفرت فيه الأركان، والشروط
…
الخ»
(2)
.
فلو كان المقصود بالعين: المعين لم يكن قوله (في الذمة) مناسبًا؛ لأن ما كان في الذمة لا يكون إلا دينًا، والدين يكون في مقابل العين، والله أعلم.
* * *
(1)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي (7/ 2/775).
(2)
انظر قرار المجمع رقم 67/ 3/7.
المبحث الرابع
الإستصناع عقد لازم أم جائز
[م-755] يعتبر عقد الاستصناع قبل الصنع عقدًا غير لازم في مذهب الحنفية، فالصانع والمستصنع لهما حق الرجوع.
وأما بعد إتمام العمل، ورؤية المشتري له:
فذهب أبو حنيفة إلى أنه يسقط خيار الصانع، ويبقى الخيار للمستصنع باعتبار أنه مشتر لما لم يره.
وذهب أبو يوسف إلى أنه إذا أتم الصانع صنع الشيء، وأحضره للمستصنع موافقًا للمواصفات، فليس لأحد منهما خيار، بل يلزم الصانع بتسليمه، ويلزم المستصنع بقبوله.
وعلل ذلك أبو يوسف: أن الصانع لما أتى به موافقًا تعين حق المستصنع فيه بعينه، بعد أن كان حقه متعلقًا بذمة الصانع، فلم يبق له خيار.
وقيل: إن الاستصناع إذا انعقد صحيحًا كان لازمًا منذ انعقاده، وهذا ما اختارته مجلة الأحكام العدلية.
جاء في المادة (392): «إذا انعقد الاستصناع، فليس لأحد العاقدين الرجوع عنه، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة، كان المستصنع مخيرًا»
(1)
.
وكنت أرى أن هذا القول ليس له مستند من مذهب الحنفية بناء على
…
ما نقله الكاساني، وابن عابدين من مذهب أبي يوسف، ونص عليه فضيلة الشيخ
(1)
في مذكرة إيضاحية مرفقة، تقول المجلة: إنها قد وضعت المواد التي تكلمت في عقد الاستصناع على أساس قول أبي يوسف.
مصطفى الزرقاء رحمه الله حتى أوقفت على كلام لبرهان الدين ابن مازة ذكره في كتابه المحيط البرهاني، وفيه ما يدل على أن أبا يوسف قد رجع عن قوله إلى القول باللزوم من انعقاد العقد، وهذا نصه:
«قلنا: الروايات في لزوم الاستصناع وعدم اللزوم مختلفة» ثم ذكر الروايات، وقال: «ثم رجع أبو يوسف عن هذا، وقال: لا خيار لواحد منهما، بل يجبر الصانع على العمل، ويجبر المستصنع على القبول.
وجه ما روي عن أبي يوسف، أنه يجبر كل واحد منهما:
أما الصانع فلأنه ضمن العمل، فيجبر عليه، وأما المستصنع فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع؛ لأنه عسى لا يشتريه غيره منه أصلًا، أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن، فيجبر على القبول دفعًا للضرر عن البائع
…
»
(1)
.
وبهذا نعرف خطأ ابن عابدين رحمه الله حين يقول: «ولكل منهما الامتناع عن العمل قبل العمل بالاتفاق»
(2)
.
وعليه أيضًا يمكننا أن نقول: إن مجلة الأحكام العدلية قد أخذت بهذه الرواية عن أبي يوسف، وهي تخالف ما ذكره ابن عابدين في رأي أبي يوسف، والله أعلم.
وبهذه الأجوبة عن المسائل الأربع نكون قد انتهينا - ولله الحمد والمنة - من توصيف عقد الاستصناع، واتضح لنا، هل هو عقد، أو وعد، وهل هو عقد لازم، أو غير لازم، وهل هو بيع أو إجارة، وما الفرق بينه وبين عقد السلم، وننتقل في المبحث التالي للحديث عن حكم عقد الاستصناع.
* * *
(1)
المحيط البرهاني (7/ 300)، وانظر بدائع الصنائع (5/ 4)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي (7/ 2/741).
(2)
حاشية ابن عابدين (5/ 224).