الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس
في الشرط الجزائي
الفصل الأول
حكم اشتراط مثل هذا الشرط في العقود
[م-794] لما كان الشرط الجزائي يوضع عادة كشرط ضمن شروط العقد الأصلي ألحقت الشرط الجزائي ضمن الشروط الجعلية في عقد البيع، وبينت هناك أحكامه وشروطه المتفق عليها والمختلف فيها، فأغنى عن إعادته هنا.
ونستطيع أن نقول فيما يتعلق بحكم الشرط الجزائي: إن هذا الشرط يرجع إلى مسألة متقدمة، وهو هل الأصل في الشروط المنع والبطلان، أو الأصل الصحة والجواز؟
ففي المسألة قولان:
القول الأول: يرى أن الأصل في الشروط المنع والبطلان، حتى يقوم دليل على جوازه وصحته، ومثل هذا المذهب لا يجيز مثل هذا الشرط جزمًا، ومن هؤلاء ابن حزم رحمه الله
(1)
.
ويستدل بأدلة كثيرة، ذكرناها وأجبنا عنها فيما تقدم، من أهمها:
(ح-553) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها في قصة شراء بريرة، وفي الحديث:
«قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس،
(1)
المحلى، مسألة (1447).
فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق .. »
(1)
.
قال ابن حزم: «فهذه الأخبار براهين قاطعة في إبطال كل عهد، وكل عقد، وكل وعد، وكل شرط ليس في كتاب الله الأمر به، أو النص على إباحة عقده؛ لأن العقود والعهود والأوعاد شروط، واسم الشرط يقع على جميع ذلك
(2)
.
وقيل: الأصل في الشروط الصحة والجواز حتى يقوم دليل شرعي على المنع والبطلان، وهذا يذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة
(3)
، ومثل هؤلاء يمكن لهم أن يذهبوا إلى جواز الشرط الجزائي.
وقد ذهبت هيئة كبار العلماء بالسعودية
(4)
، والمجمع الفقهي التابع لمنظمة
(1)
صحيح البخاري (2168)، ومسلم (1504).
(2)
الإحكام لابن حزم (2/ 599).
(3)
مجموع الفتاوى (29/ 132) ..
(4)
انظر قرار هيئة كبار العلماء في السعودية رقم (25)، وتاريخ 21/ 8/1394 هـ، وجاء في القرار بعد أن ذكر العلماء الأدلة المسوغة لجوازه، قالوا: «لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح، معتبر يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعًا، فيكون العذر مسقطًا لوجوبه حتى يزول، وإذا كان الشرط الجزائي كثيرًا عرفًا بحيث يراد به التهديد المالي، ويكون بعيدًا عن مقتضى القواعد الشرعية، فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة، أو لحق من ضرر، ويرجع في تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة، والنظر عملًا بقوله تعالى:{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} . النساء [58]. وقوله سبحانه: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8] وبقوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر، ولا ضرار، وبالله التوفيق.
وقول المجلس: «الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح، معتبر يجب الأخذ به .. » لفظ (العقود) ظاهره يشمل كل عقد، فلو أخذنا بظاهره لقيل بجواز الشرط الجزائي في كل عقد، ولا شك أن هناك من العقود ما لا يجوز اشتراط الشرط الجزائي فيه باتفاق الفقهاء، فعقد القرض مثلًا لا يجوز اشتراط الشرط الجزائي فيه عن التأخير في السداد؛ لأن هذا من الربا الصريح.
المؤتمر الإسلامي
(1)
إلى جواز اشتراط مثل هذا الشرط.
وقد ذكرنا أدلتهم في الشروط الجعلية في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا.
وإذا أردنا أن نعرف حكم الشرط الجزائي بالنظر إلى قواعد كل مذهب وموقفه من الشروط الجعلية.
فيمكن القول بأن مذهب الحنفية والشافعية لا يقولون بصحة الشرط الجزائي؛ لأن الأصل في مذهبهم النهي عن بيع وشرط، ويروون حديثًا ضعيفًا بهذا اللفظ، وقد سبق تخريجه.
فالشافعية لا يستثنون من هذا إلا الشروط التي يقتضيها العقد، مثل التسليم، والانتفاع، والشروط التي فيها مصلحة للعقد كالرهن والتأجيل والكفيل، والخيار، ويلحق به إذا باعه بشرط العتق.
وما سوى ذلك من الشروط فهي باطلة عندهم. ويدخل في ذلك الشرط الجزائي، إذا اعتبرنا أن الشرط الجزائي لا يقتضيه العقد، وليس بمنزلة الرهن والضمان، والأجل.
يقول الغزالي: «الثامن (نهى عن بيع وشرط) فاقتضى مطلقه امتناع كل شرط في البيع، والمفهوم من تعليله أنه إذا انضم شرط إلى البيع بقيت معه علقة بعد
(1)
انظر قرار المجمع الفقهي في دورته الثانية عشرة، الجزء الثاني (ص: 305)، وسننقل نص القرار في آخر البحث إن شاء الله.
العقد، يتصور بسببها منازعة، ويفوت بفواتها مقصود العاقد، وينعكس على أصل العقد، فيحسم الباب، ولم يكن محذور هذا النهي منفصلًا عن العقد، فيدل على فساده أو فساد الشرط لا محالة
…
ثم ذكر ما يستثنى من حديث النهي عن بيع وشرط»
(1)
.
ويقول الشيرازي: «إذا شرط في المبيع شرطًا نظرت:
فإن كان شرطًا يقتضيه البيع، كالتسليم، والرد بالعيب، وما أشبههما لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله.
فإن شرط ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة: كالخيار، والأجل، والرهن، والضمين، لم يبطل العقد؛ لأن الشرع ورد بذلك على ما نبينه في مواضعه إن شاء الله، ولأن الحاجة تدعو إليه، فلم يفسد العقد، فإن شرط عتق العبد المبيع، لم يفسد العقد؛ لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة لتعتقها ...... فإن شرط ما سوى ذلك من الشروط التي تنافي مقتضى البيع، بأن باع عبدًا بشرط ألا يبيعه، أو لا يعتقه، أو باع دارًا بشرط أن يسكنها مدة، أو ثوبًا بشرط أن يخيطه له، أو نعلة بشرط أن يحذوها له، بطل البيع، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط
…
»
(2)
.
ولا يختلف مذهب الحنفية عن مذهب الشافعية في بطلان الشرط في البيع؛ لأنهم يذهبون مع الشافعية إلى اعتماد ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن بيع وشرط، إلا أن الحنفية يختلفون عن الشافعية في تقديم الشرط الذي جرى به العرف، وكان عليه عمل الناس، ويقدمونه على القياس، فإذا جرى العرف على
(1)
الوسيط (3/ 73).
(2)
المهذب (1/ 268).
اعتبار الشرط الجزائي في العقود، وجرى التعامل به بين الناس أمكن للمذهب الحنفي أن يتسع لقبول القول بالشرط الجزائي استحسانًا وإن كان على خلاف القياس عندهم. وهذه مرونة في المذهب يختلف فيها عن المذهب الشافعي.
فقد ذكر الكاساني أن الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، ولكن للناس فيه تعامل، وفيه عرف ظاهر أن هذا الشرط فاسد بالقياس عندهم، ولكنهم يقولون بجوازه استحسانًا؛ لأن العرف يقضي على القياس، ويسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع
(1)
.
ولو أن مذهب الحنفية جعلوا عمل الصحابة يسقط القياس لكان هذا جيدًا، أما عمل الناس من غير الصحابة فليس بحجة، وقد يتعامل الناس بما يخالف نصًا شرعيًا، أيكون ذلك حجة على أحد؟
وأما مذهب المالكية فإن الباحث لا يستطيع أن يخرج بقاعدة من تعاملهم مع الشروط يمكنه أن يتلمس صحة هذا الشرط أو بطلانه عندهم، وهذا ما عبر عنه ابن رشد الحفيد، حيث يقول في بداية المجتهد: «وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والبيع معًا. وشروط تجوز هي والبيع معًا. وشروط تبطل هي، ويثبت البيع. وقد يظن أن عنده قسمًا رابعًا: وهو أن من الشروط ما إن يمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بَيِّنة في مذهبه بين هذه
(1)
انظر بدائع الصنائع (5/ 169 ـ 172).
الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع: وهما الربا والغرر، وإلى قلته، وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصًا في الملك، فما كان دخول هذه الأشياء كثيرًا من قبل الشرط أبطله، وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه، وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطًا أبطل الشرط، وأجاز البيع
…
»
(1)
.
ويفهم من كلام ابن رشد أن يسير الربا يجوز كما يجوز يسير الغرر، والحق أن يسير الربا محرم، ويسير الغرر جائز بالإجماع.
وأما مذهب الحنابلة فهم أوسع المذاهب في الشروط، ويمكن تخريج صحة الشرط الجزائي على قواعد المذهب، والله أعلم.
هذا ما ظهر لي من خلال تقسيم الشروط في كل مذهب ما يصح منها، وما لا يصح.
وقد خالف في هذا بعض الفضلاء، فرأى أن الشرط الجزائي مشروع وصحيح عند سائر أئمة المذاهب، يقول الشيخ الدكتور ناجي شفيق عجم، من جامعة الملك عبد العزيز:
«الشرط الجزائي شرط جائز، ومشروع حتى إنه صحيح عند المذاهب؛ لأنه شرط مقترن بالعقد جرى به العرف، وفيه مصلحة للعقد، وهو شرط ملائم للعقد، ولذلك فهو صحيح عند الحنفية؛ لجريان العرف به، وصحيح عند الشافعية؛ لأن فيه مصلحة للعقد، وصحيح عند المالكية لأن فيه مصلحة للعقد، ولأنه شرط ملائم لم يرد بإلغائه وتحريمه أو جوازه نص خاص، فهو ملائم
(1)
بداية المجتهد (2/ 120).
مرسل، وهو جائز وصحيح من باب أولى عند ا لحنابلة الذين لا يحرمون إلا الشروط التي ورد بتحريمها نص، أو التي تنافي مقتضى العقد»
(1)
.
* * *
(1)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثاني عشر (2/ 205).