الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في أخذ الشرط الجزائي على المقاول
[م-795] لما كان محل التزام المقاول عملًا من الأعمال، كأن يلتزم المقاول أو المورد أو الصانع في عقود المقاولة أو التوريد أو الاستصناع أن يدفع مبلغًا معينًا عن كل يوم، أو عن كل أسبوع، أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول أو المورد أو الصانع عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه.
ولما كان الشرط الجزائي من شرطه أن يكون العقد لازمًا، وكان عقد المقاولة لا يخرج عن عقدين معروفين في الفقه الإسلامي وهما عقد الاستصناع وعقد الأجير المشترك.
وعقد الاستصناع على الصحيح عقد لازم، كما رجحته في كتاب الاستصناع.
وعقد الأجير المشترك أيضًا عقد لازم، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
لهذا يرى أكثر الباحثين المعاصرين أنه لا مانع شرعًا في أن يتفق العاقدان على هذا الشرط الجزائي عند انعقاد العقد، لأن هذا الشرط لا يناقض مقتضى العقد، وفيه مصلحة لأحد الطرفين، ويحمل المقاول والصانع والمورد على الوفاء بالتزاماتهم، وهو أمر مطلوب شرعًا لقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وممن أخذ بهذا القول هيئة كبار العلماء في السعودية
(1)
، ومجمع الفقه
(1)
انظر قرار هيئة كبار العلماء في السعودية رقم (25)، وتاريخ 21/ 8/1394 هـ.
الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي
(1)
.
فإذا تحقق شرطه، وخلا من المانع وجب على المقاول أن يدفع ما تعهد به.
فمن الشروط المتفق عليها:
الأول: لا بد من الإخلال بالشرط المتفق عليه.
الثاني: ألا يوجد عذر للمقاول والمورد والصانع معتبر شرعًا من عدم الالتزام بالوفاء في الوقت المحدد، فإذا كان تأخرهم عن التسليم ناتجًا عن ظروف قاهرة خارجة عن إرادتهم فلا يلزمهم التعويض.
الثالث: هل يشترط أن يوجد ضرر فعلي من التأخير، أو لا يشترط، في ذلك خلاف بين أهل العلم:
فمن أهل العلم من يرى أن الشرط الجزائي تعويض عن الضرر الحاصل، وبالتالي: لا يستحق شيئًا من شرط له إذا ثبت أن التأخير لم يترتب عليه أي ضرر، ولم يتسبب في فوات أي منفعة مالية.
وهذا ما أخذ به مجمع الفقه الإسلامي، وظاهر قرار هيئة كبار العلماء.
ففي قرار المجمع ما نصه:
(2)
.
ومن أهل العلم من يرى أن الشرط الجزائي هو عقوبة مالية نظير الإخلال بالشرط، (غرامة تأخير) وليس تعويضًا عن الضرر.
(1)
انظر قرار المجمع الفقهي في دورته الثانية عشرة، الجزء الثاني (ص: 305)، وسننقل نص القرار في آخر البحث إن شاء الله.
(2)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي (12/ 2/ص: 306).
ومن هؤلاء فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع، ورفيق المصري
(1)
، والقاضي محمود شمام رئيس محكمة التعقيب الشرفي في تونس
(2)
.
وهذا القول هو الراجح، إلا أن يكون هناك نص بأن استحقاق الشرط الجزائي في مقابل التعويض عن الأضرار، وقد ذكرنا أدلة الفريقين في الشروط الجعلية في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا.
وهذا القول يتفق مع ما جاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودية، فقد جاء فيها ما يلي:
«إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملًا في المواعيد المحددة، ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعيًا لسحب العمل منه توقع عليه غرامة عن المدة التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى تنبيه للمقاول، ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي:
1% عن الأسبوع الأول.
1.
5 % عن الأسبوع الثاني.
2% عن الأسبوع الثالث.
2.
5 % عما زاد عن ثلاثة أسابيع.
3% عن أي مدة تزيد عن أربعة أسابيع
(3)
.
(1)
انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/ 2/ص: 231)، و (12/ 2/ص: 74، 297).
(2)
المرجع السابق (12/ 2/ص: 241).
(3)
انظر نظام المناقصات والمزايدات في السعودية (ص: 107) نقلًا من مجلة مجمع الفقه الإسلامي (12/ 2/ص: 81).
الرابع: ألا يكون المبلغ في الشرط الجزائي مبالغًا فيه، فلا يجوز أن يكون الشرط الجزائي يأتي على ربح المقاول كله، فضلًا أن يحمله خسائر، فهذه العقوبة المالية إنما تقلل من ربحه فقط، بحيث لا يتجاوز به ثلث الربح، أو عشرة بالمائة من مقدار العقد، لأن الشرط الجزائي يجب أن يكون قائمًا على العدل، بحيث لا يأتي على نصيب المقاول كله فيكون عمله بلا مقابل، فهذا من الظلم الذي لا تقره الشريعة، بل يجب أن يكون متوازنًا، فإذا كان المبلغ في الشرط الجزائي مبالغًا فيه حمل ذلك على أن مراد العاقد هو التهديد وحمل المقاول على التنفيذ، ويسقط الشرط الجزائي إلا أن يكون هناك ضرر فيقدر بقدره؛ لأن الضرر مدفوع.
القول الثاني:
ذهب بعض الباحثين منهم الدكتور رفيق المصري، والشيخ حسن الجواهري، والدكتور علي محيي الدين القره داغي: أن الشرط الجزائي جائز في عقد الاستصناع والمقاولة والتوريد في حالة عدم التنفيذ، ولا يجوز في حالة التأخر عن التنفيذ.
يقول الدكتور رفيق المصري: «الشرط الجزائي إن كان لعدم التنفيذ فهو جائز، ويأخذ حكم العربون، وإن كان اشتراط الشرط لأجل التأخير في التنفيذ فإنه غير جائز؛ لأنه يكون في حكم ربا النسيئة.
وحجتهم: أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام (الدين) فأخذ غرامة على التأخير فيه شبهة ربا النسيئة: تقضي أو تربي
(1)
.
(1)
انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي (12/ 2/ص: 72 - 73).
ويقول الشيخ حسن الجواهري عن عقد الاستصناع:
«المشْتَرَى دين في ذمة البائع، فإن تأخر البائع عن التسليم، وألزمناه بالشرط الجزائي فمعنى ذلك تأخر قضاء الدين في مقابل المال، هو الربا المحرم، ولذا أرى أن يقيد مثلًا صحة الشرط الجزائي في عقد الاستصناع بهذه الجملة:(إذا لم يف المستصْنَع بالعقد أصلًا) ولا تترك على إطلاقها
…
»
(1)
.
ويتساءل الدكتور رفيق المصري: لماذا يجوز الشرط الجزائي في عقد التوريد، ولا يرى جوازه عند التأخر في السلم، فأي فرق هاهنا بين التوريد والسلم؟
(2)
.
ويجيب الدكتور الصديق الضرر عن هذا القول:
فيقول: «استدلال الدكتور رفيق هو أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام (الدين).
أقول: - القائل الصديق الضرير - كون المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضربًا من الالتزام لا خلاف فيه، وأما كون هذا الالتزام مساويًا للدين فغير مسلم؛ لأن الالتزام أعم من الدين، فكل دين التزام، وليس كل التزام دينًا، والالتزام في عقد المقاولة ليس دينًا، وإنما هو التزام بأداء عمل، والمقاول قد يكون دائنًا لا مدينًا في كثير من الحالات، فالبنوك العقارية تقوم ببناء المساكن مقاولة، وتتقاضى المقابل على أقساط بعد تسليم المبنى، وكذلك يفعل كبار المقاولين، والفرق كبير جدًا بين التزام المقاول والمورد، والتزام المقترض والمشتري بثمن مؤجل، والمسلم إليه، فالتزام هؤلاء الثلاثة دين حقيقي ثبت في
(1)
انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي (12/ 2) ص: 280.
(2)
المرجع السابق (ص: 298).
ذممهم، وأخذوا مقابله، أما التزام المقاول والمورد فهو التزام بأداء عمل، لا يستحق مقابله إلا بعد أدائه، والله أعلم
(1)
.
الراجح بين القولين:
الذي أميل إليه جواز الشرط الجزائي إذا كان محل الالتزام عملًا من الأعمال، وإن كنت لا أتفق مع فضيلة الشيخ الصديق الضرير بأن التزام العمل ليس دينًا، بل هو دين؛ لأن محله ذمة الأجير أو المقاول أو المورد، وسماها الفقهاء الإجارة في الذمة، لكن هناك فرقًا بين أن يكون الدين عملًا، وبين أن يكون الدين غير ذلك، ولذلك أجاز الحنابلة والحنفية في الإجارة في الذمة تأخير العوضين، ومنعوا ذلك في البيوع إذا كان كل من المبيع والثمن دينًا في الذمة، مما يدل على أن هناك فرقًا بين الالتزامين، لذلك أرى أنه لا مانع من أخذ الشرط الجزائي إذا كان محل الالتزام عملًا من الأعمال، وإن كان هذا العمل يصح أن يقال: هو دين في ذمة الأجير والمقاول والمورد، والله أعلم.
* * *
(1)
انظر المرجع السابق (ص: 73 - 74).