الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعترض على ذلك:
قياس المبيع على الثمن قياس مع الفارق، يقول ابن الهمام:«الفرق ظاهر وهو أن المبيع هو المقصود من البيع والمحل لوروده، فانعدامه يوجب انعدام البيع بخلاف الثمن، فإنه وصف يثبت في الذمة مع صحة البيع فقد تحقق البيع شرعًا مع عدم وجود الثمن؛ لأن الموجود في الذمة وصف يطابقه الثمن، لا عين الثمن»
(1)
.
ويجاب:
بأننا نتفق أنه لا يجوز أن يكون كل من الثمن والمثمن دينًا في الذمة، وإلا صار من باب بيع الدين بالدين، فالواجب في كل البيوع إذا كان أحد العوضين دينًا في الذمة أن يكون العوض الآخر متعينًا، وليس دينًا.
فإذا تعين الثمن، وسلَّم في مجلس العقد، وصار المبيع دينًا في الذمة، كما هو في السلم كان على وفق القياس تمامًا، كما لو كان الثمن دينًا في الذمة، والمثمن متعينًا في مجلس العقد، والقول بأن المبيع هو المقصود في العقد ليس صحيحًا، فالمبيع مقصود للمشتري، كما أن الثمن مقصود للبائع.
الراجح من الخلاف:
أعتقد أن الحق وسط بين قول الجمهور وقول ابن تيمية: فالسلم عقد يتجاذبه مبيح وحاظر، فالمبيح أن المبيع ليس شيئًا معينًا، وإنما هو في الذمة، وما يستقر في الذمة فليس عرضة للتلف، فهو دين من الديون. وأما المانع فهو كون المسلم فيه قد لا يوجد، وإن كانت العادة وجوده، ولكن ذلك أمر مستقبلي غيبي، ولهذا
(1)
فتح القدير (7/ 72).
بحث الفقهاء عن خيارات المشتري فيما لو عجز البائع عن تقديم المبيع وقت التسليم، فليس بيع السلم بمنزلة بيع العين الحاضرة، ولكن كونه من عقود الغرر، لا يعني أن إباحته ليست على وفق القياس، فالغرر منه ما هو مباح مطلقًا، كالغرر اليسير، والغرر التابع، ومنه ما هو محرم تبيحه الحاجة، كالغرر الكثير إذا كانت هناك حاجة عامة إليه، والمقصود بالحاجة العامة أي حاجة عامة المزارعين، أو الحرفيين، وليس المقصود كافة الناس، ولا شك أن حاجة الناس إلى السلم اليوم أشد من حاجتهم إليه وقت التشريع، فقد كان المزارعون من الصحابة فقراء يحتاجون إلى المال لاستصلاح حرثهم ومزارعهم، وكان الأغنياء يسلفون منهم الثمار السنة، والسنتين، وكانت التجارة ميسرة، وبسيطة، وخالية من التعقيد، وتدخل الدولة في التجارة كان محدودًا جدًا بالقدر الذي يمنع من الغش، ويقيم العدل، أما اليوم ومع تعقيد التجارة، وفرض قيود، ومكوس على من يريد أن يمارسها، وأصبحت الدول تتدخل في جميع تفاصيلها، وانتشر الاحتكار، وتوفر التمويل الربوي في أصقاع الأرض، تكون الحاجة إلى مشروعية السلم حاجة لا تخص فئة خاصة من المزارعين، أو الصناعيين، بل تلبي حاجة قائمة لدى مختلف شرائح المجتمع، فغالب الناس اليوم بحاجة إلى تمويل مباح يفي بحاجاتهم دون الوقوع في محذور شرعي.
والمعاملات المالية ليست كالعبادات، فقد يتنازع المعاملة الواحدة موجبان، أحدهما يبيحها، والآخر يمنعها، ويراعي الشارع أقوى الداعيين، فليس من شرط المعاملة المباحة أن تكون خالية من أي داع للتحريم، المهم ألا يكون هذا الداعي هو الأقوى، كما في الخمر، فإن فيها إثمًا كبيرًا، ومنافع للناس، وعندما كان الإثم أكبر لم ينظر إلى المنافع، ولو كانت المنافع أكثر لم ينظر إلى الإثم، وهكذا معاملات الناس، والله أعلم.
* * *