الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الثالث
أن يكون مؤجلًا
ما جاز في المعاوضة مؤجلًا جاز حالًا، وليس العكس.
كل بيع صح مع التأجيل ينبغي أن يصح مع التعجيل.
[م-730] اختلف الفقهاء في اشتراط الأجل في السلم على أقوال:
القول الأول:
يشترط لصحة السلم أن يكون مؤجلًا، فإن كان حالًا لم يصح، وهذا مذهب الجمهور
(1)
.
(1)
انظر في مذهب الحنفية: الحجة (2/ 614)، بدائع الصنائع (5/ 212)، عمدة القاري (12/ 63)، البحر الرائق (6/ 174)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (2/ 195)، أصول السرخسي (2/ 152).
وفي مذهب المالكية: المدونة (4/ 30)، وانظر الذخيرة للقرافي (5/ 251)، وقال في الفروق (3/ 289): «السلم الجائز ما اجتمع فيه أربعة عشر شرطًا، فذكرها، وقال:
التاسع: أن يكون مؤجلًا، فيمتنع السلم الحال اهـ.
وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 379 - 381)، شرح الزرقاني على موطأ مالك (3/ 414)، المنتقى للباجي (4/ 297).
هذا هو المشهور من مذهب مالك، أن السلم لا يجوز حالًا، وقد خرج بعضهم من بعض الروايات عنه جواز السلم الحال.
جاء في الذخيرة (5/ 253): «روى ابن عبد الحكم: السلم إلى يوم، فقيل: هي رواية في السلم الحال، وقيل: بل المذهب لا يختلف في منعه، وإنما هذا خلاف في مقداره» .
وفي المنتقى للباجي (4/ 297): «روى ابن عبد الحكم وابن وهب، عن مالك: يجوز أن يسلم إلى يومين أو ثلاثة.
وزاد ابن عبد الحكم: أو يوم.
قال القاضي أبو محمد: واختلف أصحابنا في تخريج ذلك على المذهب: فمنهم من قال: إن ذلك رواية في جواز السلم الحال، وبه قال الشافعي.
ومنهم من قال: إن الأجل شرط في السلم قولًا واحدًا، وإنما تختلف الرواية عنه في مقدار الأجل .. ».
وفي مذهب الحنابلة انظر: المغني (4/ 193)، الإنصاف (5/ 98)،
القول الثاني:
يجوز السلم مطلقًا، حالًا، ومؤجلًا، وسواء أكان المسلم فيه عنده، أم لم يكن عنده، وهذا مذهب الشافعية
(1)
.
القول الثالث:
يجوز السلم الحال بشرط أن يكون المسلم فيه عنده، وهذا اختيار ابن تيمية
(2)
.
القول الرابع:
يجوز السلم الحال بلفظ البيع، ولا يجوز بلفظ السلم، اختاره القاضي أبو يعلى من الحنابلة
(3)
.
دليل من قال: لا يجوز السلم حالًا:
الدليل الأول:
(ح-527) ما رواه البخاري ومسلم من طريق سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال،
عن ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
الأم (3/ 95)، شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 41)، معرفة السنن والآثار (4/ 405)، روضة الطالبين (4/ 7)، كفاية الأخيار (2/ 248)، مغني المحتاج (2/ 105).
(2)
قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/ 393): «ويصح السلم حالًا إن كان المسلم فيه موجودًا في ملكه، وإلا فلا
…
». وانظر الإنصاف (5/ 98)، تفسير آيات أشكلت (2/ 694).
(3)
الإنصاف (5/ 98)، تفسير آيات أشكلت (2/ 694).
المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في تمر، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب مراعاة الأجل في عقد السلم، كما أوجب مراعاة القدر فيه (في كيل معلوم ووزن معلوم)، فإذا كان القدر المعلوم شرطًا في عقد السلم، وجب أن يكون الأجل شرطًا فيه أيضًا.
ويجاب:
بأن ذكر الأجل في الحديث يحتمل أمرين:
إما لأنه قيد أغلبي، إذ غالب ما يحتاج الناس في بيع الموصوف في الذمة (السلم) إلى العقد المؤجل، لأن العقد الحال غالبًا ما يتوجه الناس إلى شراء الشيء المعين، وليس الموصوف، فلما كان الغالب على السلم التأجيل ذكر الأجل في الحديث.
ويحتمل أن يكون ذكر الأجل في الحديث ليس من أجل اشتراط الأجل في العقد، وإنما معناه: إن كان هناك أجل، فليكن معلومًا، كما أن الكيل، والوزن ليسا بشرط، بل يجوز السلم في الثياب بالذراع، وإنما ذكر الكيل بمعنى: أنه إن أسلم في مكيل، فليكن كيله معلومًا، وإن كان في موزون، فليكن وزنه معلومًا، وإن كان مؤجلًا، فليكن أجله معلومًا، ولا يلزم من هذا اشتراط كون السلم مؤجلًا، بل يجوز حالًا
(2)
.
الدليل الثاني:
السلم عقد لم يشرع إلا رخصة؛ لكونه بيع ما ليس عند الإنسان.
(1)
صحيح البخاري (2086)، ومسلم (3010).
(2)
انظر شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 41).
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن بيع ما ليس عند البائع، ورخص في السلم
(1)
.
فالسلم بيع غائب، ليس عند البائع وقت العقد؛ رخص به ليدفع به حاجة كل من المتعاقدين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة بأرخص من قيمتها؛ ليربح فيها، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه بعض الفقهاء بيع المحاويج، فإذا جاز حالًا بطلت هذه الحكمة، وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة
(2)
.
يجاب عن ذلك:
أما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح، وقد سبق الكلام عن ذلك.
وأما قولكم: بأن السلم لم يشرع إلا رخصة، إن كنتم تقصدون بذلك كما يقول بعضهم: إن السلم على خلاف القياس؛ لأنه بيع معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز، وإذا كان الحال كذلك اقتصر بالسلم على صفته، فلم يجز حالًا، فقد أجبت على ذلك في فصل مستقل، وبينت أن السلم جار على وفق القياس، وذلك أن السلم المؤجل دين من الديون، فكما أن الثمن قد يؤجل في الذمة، وهو أحد العوضين، فكذلك المثمن قد يؤجل في ذمة البائع، فأي فرق بين كون أحد العوضين يصح أن يكون مؤجلًا في الذمة، ولا يصح أن يكون العوض الآخر مؤجلًا في الذمة
(3)
.
(1)
سبق تخريجه، انظر (ح 514).
(2)
تفسير القرطبي (3/ 379).
(3)
انظر مجموع الفتاوى (20/ 529)، زاد المعاد (5/ 811)، إعلام الموقعين (1/ 350) و (2/ 19).
وأما قولكم: إذا جاز حالًا بطلت الحكمة من مشروعية السلم، فيقال: على التسليم بقولكم، فإن الحكمة إذا بطلت من مشروعية السلم، فلم تبطل حكمة الشرع من مشروعية المعاوضة، فإن البائع انتفع بالثمن، والمشتري انتفع بالمبيع بعد استلامه، وهذا هو المقصود الأعظم للشرع من إباحة تبادل الأموال عن طريق المعاوضة، وما جاز في المعاوضة مؤجلًا جاز حالًا، وليس العكس، فإن هناك من المعاملات ما لا تصح إلا حالة مقبوضة في مجلس العقد.
الدليل الثالث:
الحلول في السلم يخرج العقد عن اسمه ومعناه:
أما إخراجه عن اسمه، فظاهر، فإن معنى السلم والسلف: أن يعجل أحد العوضين، ويتأخر الآخر، فإذا لم يكن هناك تأجيل، وكان حالًا خرج السلم عن اسمه.
وأما خروجه بالتعجيل عن معناه: فإن الشارع إنما أرخص فيه للحاجة الداعية إليه، كما بينت فيما سبق، ومع حضور ما يبيعه حالًا لا حاجة إلى السلم، فإن البائع والحالة هذه لا يبيع إلا معينًا، لا يبيع شيئًا في الذمة، وهذا لا يقال له سلم
(1)
.
ويجاب عنه:
بأن هناك أكثر من فائدة في العدول من البيع المعين إلى السلم الحال من ذلك:
الفائدة الأولى:
في باب الضمان، فإن المشتري إذا اشترى سلعة معينة، ولم تكن بحاجة إلى
(1)
المغني (4/ 193 - 194).
استيفاء من كيل، أو وزن، فهلكت قبل قبضها، فإنها تهلك على المشتري، وإذا اشترى شيئًا موصوفًا في ذمة البائع، فهلكت قبل قبضها كان ضمانها على البائع.
الفائدة الثانية:
أن الشافعية يمنعون بيع العين الغائبة، ولو كانت موصوفة ما دامت معينة، فإذا كانت السلعة المعينة غير حاضرة عند العقد لم يصح العقد عليها عندهم، لكنهم يجوزون السلم الحال مع غيبة المبيع؛ لأن المبيع في مثل هذا لا يكون متعلقًا بسلعة معينة، بل يكون موصوفًا، متعلقًا في ذمة البائع، مضمونًا عليه
(1)
.
دليل الشافعي على جواز السلم حالًا:
الدليل الأول:
قالوا: إذا جاز السلم مؤجلًا مع الغرر، فجواز الحال أولى؛ لأنه أبعد عن الغرر، أو نقول بلفظ آخر: كل بيع صح مع التأجيل، ينبغي أن يصح مع التعجيل؛ لأن التعجيل زيادة مطلوبة، تحقق الغرض من مقصود البيع، وهو انتفاع البائع بالثمن، وانتفاع المشتري بالمبيع.
وأجاب الجمهور:
لا نسلم عدم الغرر مع الحلول؛ لأنه إن كان عنده فهو قادر على بيعه حالًا، فعدوله إلى السلم قصد للغرر، وإن لم يكن عنده، فالأجل يعينه على تحصيله، والحلول يمنع ذلك، فبقي الغرر
(2)
.
(1)
انظر مغني المحتاج (2/ 105)، وانظر في هذه المنظومة بيع العين الغائبة الموصوفة في عقد البيع.
(2)
انظر الذخيرة للقرافي (5/ 252 - 253).
ويرد على هذا:
بأن يقال: قد أجبنا عن فائدة العدول إلى السلم في بيع الحال، فإن المشتري والبائع مستفيدان من هذه الصيغة، فالمشتري يريد أن يتعلق الضمان بعين موصوفة، ليكون ضمانها على البائع، والبائع إن كانت سلعته موجودة عنده، فقد لا تكون حاضرة في مجلس العقد، وإن كانت ليست عنده كان له من الوقت ما يذهب، ويحضرها، والحلول لا يعني وجوب التقابض في مجلس العقد، كما لو باعه عينًا معينة غائبة موصوفة، فإن البيع يعتبر حالًا، ويعطى من الوقت ما يمكنه من إحضار السلعة، وأخطر ما في ذلك أن يعجز البائع عن تحصيل المبيع، فإن عجز انفسخ العقد، كما أن العقد ينفسخ في السلم المؤجل إذا عجز البائع عن تحصيل المبيع، والضرر في السلم الحال أخف، لأن المشتري في السلم المؤجل قد ينتظر السنة والسنتين، ويعجز البائع عن تسليم المبيع، فيكون البائع مخيرًا بين فسخ العقد، أو الانتظار إلى حين تمكن البائع من تحصيل المبيع، ففي الحالة هذه يكون الضرر أبلغ على المشتري، ومع هذا الاحتمال لم يمنع ذلك من صحة البيع، فكذلك لا يمنع صحته في السلم الحال.
الدليل الثاني:
عقد السلم الحال عقد من عقود المعاوضات، وعقود المعاوضات ليس من شرط صحتها التأجيل كالبيع.
الدليل الثالث:
البيع نوعان: بيع عين، وبيع صفة، وبما أنه يصح بيع العين حالًا، فإنه يجب أن يصح بيع الصفة حالًا مثله، غاية ما في ذلك أن بيع الصفة لا يتعلق المبيع
بسلعة معينة، وإنما يكون تعلقها بذمة البائع، وهذا لا يوجب فرقًا مؤثرًا في صحة البيع.
دليل ابن تيمية على اشتراط كون المسلم فيه مملوكًا:
الدليل الأول:
(ح-528) ما رواه أحمد من طريق أبي بشر، عن يوسف بن ماهك،
عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك
(1)
.
وقد وجه ابن تيمية رحمه الله هذا الحديث على تحريم السلم الحال إذا لم يكن عنده بالآتي:
الأول: الحديث ورد في النهي عن بيع شيء في الذمة، وليس النهي عن بيع شيء معين، يملكه زيد، أو عمرو؛ لأن حكيم بن حزام لم يكن يبيع شيئًا معينًا يملكه غيره، ولا كان الذي يأتيه يقول: أريد سلعة فلان، أو سيارة فلان، وإنما كان الذي يأتيه يقول: أريد طعام كذا وكذا، ثم يذهب، فيحصله من غيره.
الثاني: أن حكيم بن حزام رضي الله عنه كان يبيعه حالًا، وليس مؤجلًا، فإنه قال: أبيعه، ثم أذهب فأبتاعه، فقال له: لا تبع ما ليس عندك، فلو كان السلم الحال لا يجوز مطلقًا، لقال له: لا تبع هذا، سواء أ كان عنده، أم لا، فلما قال له: لا تبع ما ليس عندك، كان هذا دليلًا على جواز السلم الحال إذا كان عنده، وكان الحديث دليلًا على اشتراط وجود المسلم فيه مملوكًا له وقت العقد، فهو نهي عن السلم الحال، إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه، فيلزم ذمته بشيء حال، ويربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه.
(1)
سبق تخريجه انظر (ح 231).
المناقشة:
كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يصح توجيهه لو كان حديث حكيم ابن حزام محفوظًا باللفظ الذي استشهد به ابن تيمية رحمه الله، وإذا كان المحفوظ في حديث حكيم - كما بينته عند تخريج الحديث - إنما هو بالنهى عن بيع الطعام حتى يستوفى لم يكن فيه دليل على اشتراط وجود المسلم فيه مملوكًا عند البائع، وإنما النهي عن بيع ما ليس عندك ثبت من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وليس فيه القصة التي ذكرها حكيم، وهو مطلق، ويمكن حمله على النهي عن بيع شيء معين لا يملكه، كما حمله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
وأما قوله «فيربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه» .
فيقال: نحن نشترط ألا يسلم في شيء حال، إلا إذا كان يغلب على ظنه وجوده، وما غلب على الظن وجوده، كان قادرًا على تسليمه.
ولذلك أجاز بعض الفقهاء السلم في الخبز، واللحم يأخذ منه كل يوم أجزاء معلومة، إذا غلب على الظن وجوده عنده، وهذا يمكن إلحاقه بالسلم الحال؛ لأنه يمكن له أن يشرع في قبض الحصة الأولى مع العقد.
وأما قول الشيخ رحمه الله «فيربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه» أما الربح فيه فليس منهيًا عنه ما دام مضمونًا عليه؛ لأن المحذور أن يربح فيما
…
لم يضمن، كما لو باعه شيئًا معينًا لم يدخل ملكه، فيربح فيه قبل أن يدخل في ضمانه، وأما السلم الحال، والمؤجل فهو بيع شيء موصوف في ذمته مضمون عليه، فلا حرج في الربح فيه.
وأما قول الشيخ: «وليس هو قادرًا على إعطائه»
إن كان المقصود ليس قادرًا على إعطائه في مجلس العقد فمسلم، وهذا لا يمنع صحة السلم؛ لأن حلول السلم لا يعني وجوب التقابض في مجلس العقد،
كما لو باعه عينًا معينة غائبة موصوفة، فإن البيع يعتبر حالًا، ويعطى من الوقت ما يمكنه من إحضار السلعة، وإن كان المقصود ليس قادرًا على إعطائه مطلقًا، فغير مسلم؛ لأننا نشترط في السلم الحال أن تكون السلعة موجودة في السوق، فلا يسلم حالًا في وقت الصيف، في فاكهة لا توجد إلا في الشتاء أو العكس.
الدليل الثاني لابن تيمية:
ذكر رحمه الله بأن السلعة إذا لم تكن عنده، فقد يحصل عليها، وقد لا يحصل عليها، وهذا نوع من الغرر، وإن حصله، فقد يحصله بثمن أعلى مما تسلفه، فيندم، وقد يحصله بسعر أرخص من ذلك، فيندم المسلف؛ لأنه كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الرخص، فصار هذا من نوع الميسر، والقمار، والمخاطرة، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد،، يباع بدون ثمنه، فإن حصل ندم البائع، وإن لم يحصل ندم المشتري.
المناقشة:
قول ابن تيمية رحمه الله: السلعة إذا لم تكن عنده فقد يحصل عليها، وقد لا يحصل عليها، وهذا نوع من الغرر:
يقال: هذا الغرر موجود في السلم المؤجل من باب أولى، فإن البائع قد يحصل على المبيع، وقد لا يحصل عليه، والتأجيل: ليس مظنة الحصول عليه، ولأن الشأن في حال السلم المعجل قد يتصل البائع بالمورد، ويسأله عن وجود البضاعة، ويتأكد من وجودها قبل دخوله في الصفقة، بخلاف المؤجل فإنه غيب لا يعلمه إلا الله، وعلى كل حال نحن نشترط لصحة السلم الحال أن تكون البضاعة موجودة، وفرق بين اشتراط وجود البضاعة في السوق، وبين اشتراط وجودها في ملكه.
وأما قول الشيخ: بأنه قد يحصل عليها بثمن أقل، فيندم المشتري إذ كان يمكنه تحصيل السلعة من المصدر، وقد يحصل عليها بثمن أكثر من قيمتها، فيندم البائع، فيكون هذا كبيع العبد الآبق، والجمل الشارد.
فيقال: قد يكون كلام الشيخ رحمه الله مناسبًا للعصر الذي كان فيه، أما اليوم فقد يحرص المشتري أن يحصل على البضاعة من خلال التاجر، ولا يرغب في الحصول عليها من خلال الموزع، وذلك ليستعين بخبرة التاجر من خلال معرفته للسلع الجيدة من السلع المقلدة، فهو يعرف السلع جيدًا والفروق بينها، ومدى جودة كل سلعة، وملاءمتها للظروف، كما يرغب المشتري أن يكون الضامن للسلعة رجلًا معروفًا في السوق يستطيع أن يرجع إليه، إذا تبين وجود عيب، أو خلل، أو قامت حاجة إلى قطع غيار ونحوه، كما أن في الناس من لا يعرف قيمة الأشياء، فيستعين بمن يعرفها، فالتاجر يستطيع أن يشتري البضاعة بأقل سعر ممكن مما لو اشتراها الرجل العادي، فيطيب المشتري نفسًا أن يدفع ربحًا معلومًا فوق الثمن الذي دفعه البائع، ومع كل هذا فإن العرف التجاري اليوم، أن المنتج إذا باع بضاعته على الباعة أعطاهم إياها بسعر الجملة، وإذا باع على الأفراد كان لها سعر آخر، وهو سعر الاستهلاك، فلو رجع المستهلك إلى المصدر وجد تطابقًا بالسعر بين البائع، والمنتج، أو الموزع، وهذا عرف يحترمه التجار بينهم، لينتفع أهل السوق من جهة، ويكون سعر البضاعة موحدًا من جهة أخرى.
دليل من قال: يصح بلفظ البيع، ولا يصح بلفظ السلم.
ربما استدل صاحب هذا القول بأن الألفاظ لها دور كبير في تكييف المعاملة من الإباحة إلى التحريم، فمن دفع درهمًا، وأخذ درهمًا بدلًا عنه: إن كان بلفظ البيع اشترط التقابض في مجلس العقد، وإن كان بلفظ القرض جاز التأجيل،
والذي فرق بينهما هو اللفظ، فالسلم اسمه ومعناه: أن يسلم الثمن، ويتأخر المثمن، فهو أخص من البيع، فإذا جرت المعاوضة بدفع الثمن، وكان المثمن حالًا، لم يصدق عليه أنه من باب السلَم، وصدق عليه أنه بيع، فنشترط أن يكون بلفظ البيع، ولا يكون بلفظ السلم.
ويجاب عن ذلك:
بأن هناك فرقًا بين عقد القرض، وعقد المعاوضة، فعقد القرض من عقود الإرفاق، والإحسان، لم يقصد به الربح، بخلاف عقود المعاوضات، والسلم والبيع من عقود المعاوضات، فما يشترط في البيع يشترط في السلم، وذلك من العلم في المبيع، والعلم بالثمن، وانتفاء الجهالة والغرر
…
الخ شروط البيع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العبرة في ألفاظ العقود بمعانيها، لا بألفاظها وقد قدمت فصلًا مستقلًا بأنه: إذا تعارض اللفظ والمعنى، قدم المعنى على الصحيح من أقوال أهل العلم، وقد انتقد ابن تيمية من فرق بين السلم الحال بلفظ البيع، وبين السلم الحال بلفظ السلم، فقال: «مستند هذا الفرق ليس مأخذًا شرعيًا، فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات، كما يراه طائفة من أصحابه .... يُجَوزون بيع ما في الذمة بيعًا حالًا بلفظ البيع، ويمنعونه بلفظ السلم؛ لأنه يصير سلمًا حالًا، ونصوص أحمد، وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه بصيغ العقود، فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني، لا بما يحمل على الألفاظ، كما تشهد به أجوبته في الأيمان والنذور، والوصايا، وغير ذلك من التصرفات، وإن كان هو قد فرق بينهما، كما فرق طائفة من أصحابه، فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة
…
»
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى (29/ 121).
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض الأقوال أجد أن أقوى الأقوال في المسألة هو مذهب الشافعية، وهو جواز السلم الحال مطلقًا، سواء كان عند البائع، أو ليس عنده، بشرط أن يغلب على الظن وجوده في السوق، وإذا كان السلم المؤجل لا يدخل في قوله: لا تبع ما ليس عندك، لم يدخل السلم الحال من باب أولى، والله أعلم.