الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(107) باب في كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، وتَبَتُّلِه ودُعَائِهِ
[642]
- عَن ابنَ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ بَاتَ لَيلَةً عِندَ مَيمُونَةَ أُمِّ المُؤمِنِينَ، وَهِيَ خَالَتُهُ، قَالَ: فَاضطَجَعتُ فِي عَرضِ الوِسَادَةِ، وَاضطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهلُهُ فِي طُولِهَا،
ــ
الصامت مرفوعًا: إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بَلجَاء، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة لا برد فيها ولا حرّ، ولا يحلّ لكوكب أن يرمى به فيها حتى يصبح، وإن أمارة الشمس أنها تخرج صبيحتها مشرقة ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يحلّ للشيطان أن يطلع يومئذٍ معها (1). قال: وهذا حديث حسن غريب من حديث الشاميين، رواته كلهم معروفون ثقات (2).
(107)
ومن باب: كيفيه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل
قول ابن عباس: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طولها: العَرض - بفتح العين -، خلاف الطول، وهو المراد هنا. وعُرض الوادي: ناحيته؛ بالضم. والعِرض - بالكسر -: السبُّ والذمُّ. والوسادة: ما يُتوسَّدُ إليه وعليه، ويريد به هنا الفراش. وكان اضطجاع ابن عباس لرؤوسهما، أو لأرجلهما؛ وذلك لصغره.
قلت: هذا الذي قاله الشارحون من تسمية الفراش وسادة تجُّوزٌ لا شك فيه؛ إذ الوسادة ما يتوسَّد إليه، كما أن المِرفقة ما يُرتفقُ عليه. ويمكن أن يبقى لفظ
(1) رواه أحمد (5/ 324).
(2)
ساقط من (ع).
فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انتَصَفَ اللَّيلُ، أَو قَبلَهُ بِقَلِيلٍ، أَو بَعدَهُ بِقَلِيلٍ، استَيقَظَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَمسَحُ النَّومَ عَن وَجهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ العَشرَ الآيَاتِ الخَوَاتِمَ مِن سُورَةِ آلِ عِمرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنهَا فَأَحسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَقُمتُ
ــ
الوسادة على حقيقته، ويكون اضطجاع رسول صلى الله عليه وسلم عليها: وضعه رأسه على طولها، واضطجاع ابن عباس: وضعه رأسه على عرضها، وقد تقدم ذكر سن ابن عباس يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل: هذا من ابن عباس تقدير للوقت لا تحقيق، لكنه لم يخرج به عن قول الله تعالى:{قُمِ اللَّيلَ إِلا قَلِيلا * نِصفَهُ أَوِ انقُص مِنهُ قَلِيلا * أَو زِد عَلَيهِ} وقراءته صلى الله عليه وسلم هذا العشر في هذا الوقت؛ لما تضمّنه من الحضّ والتنبيه على الذكر والدعاء والصلاة والتفكر، وغير ذلك من المعاني المنشطة على القيام، على ما لا يخفى.
والشّنّ: القربة البالية (1)، وهو الشجب أيضًا في الرواية الأخرى، ويقال: سقاء شاجب؛ أي: يابس.
وقوله: فأحسن الوضوء؛ أي: أبلغه وأكمله، ومع ذلك فلم يهرق من الماء إلا قليلا، كما جاء في الرواية الأخرى: ولم يكثر، وقد أبلغ، وفي الأخرى: وضوءًا حسنًا بين الوضوءين. ووضعه صلى الله عليه وسلم يمينه على رأس عبد الله: تسكين له، وأخذه بأذنه، تثبيت للتعليم، أو زيادة في التأنيس والتسكين، وقيل: فعل ذلك لينفي عنه العين؛ لما أعجبه فعله معه، وقيل: فعل ذلك به طردًا للنوم، وفي بعض طرق هذا الحديث عنه قال: فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، وهذا نصّ. وشناق
(1) في (ع): المعلقة.
فَصَنَعتُ مِثلَ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَهَبتُ فَقُمتُ إِلَى جَنبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ اليُمنَى عَلَى رَأسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي اليُمنَى يَفتِلُهَا، فَصَلَّى رَكعَتَينِ، ثُمَّ رَكعَتَينِ، ثُمَّ رَكعَتَينِ، ثُمَّ رَكعَتَينِ، ثُمَّ رَكعَتَينِ، ثُمَّ رَكعَتَينِ، ثُمَّ أَوتَرَ، ثُمَّ اضطَجَعَ، حَتَّى جَاءَ المُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكعَتَينِ خَفِيفَتَينِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبحَ.
زَادَ في رواية: ثُمَّ عَمَدَ إِلَى شَجبٍ مِن مَاءٍ، فَتَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ، وَأَسبَغَ الوُضُوءَ، وَلَم يُهرِق مِنَ المَاءِ إِلا قَلِيلا، ثُمَّ حَرَّكَنِي فَقُمتُ.
وفِي أُخرَى: فَقُمتُ عَن يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي عَن يَمِينِهِ، فَتَتَامَّت صَلاةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيلِ ثَلاثَ عَشرَةَ رَكعَةً، ثُمَّ اضطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَأَتَاهُ بِلالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقَامَ فَصَلَّى وَلَم يَتَوَضَّأ، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللهمَّ اجعَل فِي قَلبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمعِي نُورًا، وَعَن يَمِينِي نُورًا، وَعَن يَسَارِي نُورًا، وَفَوقِي نُورًا، وَتَحتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلفِي نُورًا، وَعَظِّم لِي نُورًا.
ــ
القربة (1): ما تُشنَقُ به القربة، أي: يُشدُّ عنقها. وقيل: هو الذي تُعَلَّقُ به، قال أبو عبيد: والأول أشبه.
وقوله في الرواية الأخرى: فقمت عن يساره، فأخذ بيدي، فأدارني عن يمينه، هذا أخذٌ للإدارة، والأخذ بالأذن أخذ للتنشيط أو التنبيه، على ما تقدم. وقد فسّر هذه الإدارة في رواية أخرى؛ فقال: وأخذ بيدي من وراء ظهره، ولا تعارض بين الأخذين؛ إذ جمعهما له ممكن، والله أعلم.
(1) لم ترد هذه الكلمة في التلخيص، وهي في صحيح مسلم برقم (763)(181).
وَفِي رِوَايَةٍ: وَسَبعًا فِي التَّابُوتِ فَذَكَرَ عَصَبِي وَلَحمِي وَدَمِي وَشَعرِي وَبَشَرِي. وَذَكَرَ خَصلَتَينِ.
وفي أُخرَى: وفي لِسَانِي نُورًا. وَقَالَ فِي آخِرِه: وَاجعَل لِي نُورًا.
وفي أُخرَى: وَاجعَلنِي نُورًا.
رواه أحمد (1/ 341)، والبخاري (699 و (6316)، ومسلم (763)(181 و 182 و 183 و 187)، وأبو داود (58 و 660)، والنسائي (2/ 30)، وابن ماجه (1363).
[643]
- وعَن زَيدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لأرمُقَنَّ صَلاةَ
ــ
وقد تقدم الكلام على مراتب المأموم مع إمامه، وعلى نوم الأنبياء صلى الله عليهم أجمعين وسلم، وعلى الخلاف في كيفية صلاة الليل. وهذه الأنوار التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن تحمل على ظاهرها، فيكون معنى سؤاله: أن يجعل الله له في كل عضو من أعضائه نورًا يوم القيامة، يستضيء به في تلك الظلم هو ومن تبعه، أو من شاء الله تعالى ممن تبعه. والأولى أن يقال: هذه الأنوار هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى:{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدرَهُ لِلإِسلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِن رَبِّهِ} وكما قال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ} أي: علمًا وهداية، والتحقيق في معنى النور: أن النور مُظهِر ما ينسب إليه، وهو يختلف بحسبه، فنور الشمس مُظِهرٌ للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات، فكأنه دعا بإظهار الطاعات عليها دائمًا، والله تعالى أعلم.
وقوله: وسبعًا في التابوت؛ أي: وذكر سبعًا، والتابوت أراد به الجسد، وذكر خمسًا، ولم يعيِّن الخصلتين؛ وهما: اللسان والنفس على ما ذكره في الأم. قال أبو الفرج في قوله: وسبعًا في التابوت؛ أي: سبعة أشياء مكتوبة عنده في
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيلَةَ، فَصَلَّى رَكعَتَينِ خَفِيفَتَينِ، ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَينِ طَوِيلَتَينِ طَوِيلَتَينِ طَوِيلَتَينِ، ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَينِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَينِ قَبلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَينِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَينِ قَبلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَينِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَينِ قَبلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَينِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَينِ قَبلَهُمَا، ثُمَّ أَوتَرَ. فَذَلِكَ ثَلاثَ عَشرَةَ رَكعَةً.
رواه أحمد (5/ 193)، ومسلم (765)، وأبو داود (1366)، وابن ماجه (1362).
[644]
- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ مِن جَوفِ اللَّيلِ: اللهمَّ لَكَ الحَمدُ، أَنتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ،
ــ
الصندوق؛ أي: قد نسيها، وهي عنده مكتوبة، وقد جاء فيما بعد منها: عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري.
وقوله: اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض؛ أي: منوّرها في قول الحسن؛ دليله: قراءة علي رضي الله عنه: (الله نَوَّرَ السماوات)(1) بفتح النون، والواو مشددة. قال ابن عباس: هادي أهلهما. ومجاهد: مدبرهما، وقيل: هو المنزه في السماوات والأرض من كل عيب، من قول العرب: امرأة نوارة؛ أي: مبرأة من كل ريبة. وقيل: هو اسم مدح، يقال: فلان نور البلد، وشمس الزمان؛ كما قال النابغة:
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ
…
إذا طلعت لم يبدُ منهن (2) كوكبُ
وَلَكَ الحَمدُ، أَنتَ قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ، وَلَكَ الحَمدُ، أَنتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَن فِيهِنَّ،
ــ
وقال آخر:
إذا سار عبد الله في مَرو ليلةً
…
فقد سار فيها نورها وجمالها
وقال أبو العالية: مزيِّن السماوات بالشمس والقمر والنجوم، ومزيِّن الأرض بالأنبياء، والأولياء، والعلماء.
وقوله: أنت قيّام السماوات والأرض: قيام على المبالغة، من قام بالشيء: إذا هيأ له ما يحتاج إليه، ويقال: قيوم، وقيام، وقيِّم. وقرأ عمر:(الله لا إله إلا هو الحي القيّام)(1). وعلقمة: (القيِّم). وقال قتادة: هو القائم بتدبير خلقه. الحسن: القائم على كل نفس بما كسبت. ابن جبير: الدائم الوجود. ابن عباس: الذي لا يحول ولا يزول.
وقوله: أنت رب السماوات والأرض؛ أي: مصلحهما، ومصلح من فيهما، مأخوذ من الربّة، وهي نبت تصلح عليه المواشي، يقال: رَبَّ، يَرُبُّ رَبَّا، فهو رابٌّ، وربٌّ، وربّى يربي تربية، فهو مُربٍّ. قال النابغة:
وربَّ عليه اللَّهُ أحسَنَ صَنعَه
وقال آخر:
يَرُبُّ الذي يأتي من الخير أنه
…
إذا فعل المعروف زاد وتمَّما
(1) الآية في سورة البقرة رقم (255) بلفظ: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .
أَنتَ الحَقُّ، وَوَعدُكَ الحَقُّ، وَقَولُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ،
ــ
والربُّ أيضًا: السِّيِّد، فيكون معناه: أنه سيد من في السماوات والأرض.
والرب: المالك؛ أي: هو مالكهما ومالك من فيهما.
وقوله: أنت الحق؛ أي: الواجب الوجود، وأصله من: حق الشيء؛ إذا ثبت ووجب، ومنه:{أَفَمَن حَقَّ عَلَيهِ كَلِمَةُ العَذَابِ} وَلَكِن حَقَّ القَولُ مِنِّي؛ أي: ثبت ووجب، وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة والخصوصية لا ينبغي لغيره؛ إذ وجوده لنفسه، فلم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه، وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل (1)
…
. . . . . . . . . . . . . . . ."
وإليه الإشارة بقوله تعالى: {كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلا وَجهَهُ لَهُ الحُكمُ وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ} ولقاؤنا الله تعالى عبارة عن مآل حالنا بالنسبة إلى جزائنا على أعمالنا في الدار الآخرة، والساعة: يوم القيامة، وأصله القطعة من الزمان، لكن لما لم يكن هناك كواكب تقدر بها الأزمان؛ سُمِّيت بذلك، والله أعلم.
وإطلاق اسم الحق على هذه الأمور كلها؛ معناه: أنها لا بد من كونها، وأنها مما ينبغي أن يصدق بها، وتكرار الحق في تلك المواضع على جهة التأكيد والتفخيم والتعظيم لها.
(1) وتتمته: وكل نعيم لا محالة زائل. والحديث رواه البخاري في المناقب (3841).
وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهمَّ لَكَ أَسلَمتُ، وَبِكَ آمَنتُ، وَعَلَيكَ تَوَكَّلتُ، وَإِلَيكَ أَنَبتُ، وَبِكَ خَاصَمتُ، وَإِلَيكَ حَاكَمتُ، فَاغفِر لِي مَا قَدَّمتُ وَما أَخَّرتُ، وَما أَسرَرتُ وما أَعلَنتُ، أَنتَ إِلَهِي، لا إِلهَ إِلا أَنتَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَيِّمُ مَكَانَ: قَيَّامُ.
رواه أحمد (1/ 298 و 308)، والبخاري (1120)، ومسلم (769)، وأبو داود (771)، والترمذي (3418)، والنسائي (3/ 209 - 210)، وابن ماجه (1355).
ــ
وقوله: لك أسلمت؛ أي: انقَدتُ وخضعت. وبك آمنت؛ أي: صدّقت. وعليك توكلت؛ أي: فوّضت. [وإليك أنبت؛ أي: رجعت. وبك خاصمت؛ أي: بما لقَّنتَنِي من الحجة غلبت الخصوم. وإليك حاكمت؛ أي: إليك فوّضت](1) الحكومة؛ كما قال تعالى: {أَنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ} وقد تقدم الكلام على عصمة الأنبياء والذنوب المنسوبة إليهم في كتاب الطهارة. فإذا فرّعنا على جواز الصغائر عليهم، فيكون الاستغفار على بابه وظاهره، وإن أحلنا ذلك عليهم، فيكون استغفاره لِيَسُنَّه لأمته، أو على تقدير وقوع ذنوب منه حتى يلازم حالة الافتقار والعبودية.
وقوله: وما قدمت؛ أي: قبل وقتي هذا. وما أخرت: عنه. وما أسررت؛ أي: أخفيت. وأعلنت: أظهرت. أنت إلهي؛ أي: معبودي ومقصودي، الذي وَلِهَ فيك قلبي، وتحيَّر في عظمتك وجلالك عقلي، وكَلَّ عن ثنائك لساني، فغاية الو يلة إليك، لا أحصي ثناءً عليك. لا إله إلا أنت؛ أي: لا معبود غيرك، ولا معروف بهذه المعرفة سواك.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
[645]
- وعَن عَائِشَةَ قَالَت: كَانَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيلِ افتَتَحَ صَلاتَهُ: اللهمَّ رَبَّ جَبرَيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ، عَالِمَ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ، اهدِنِي لِمَا اختُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذنِكَ، إِنَّكَ تَهدِي مَن تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ.
رواه أحمد (6/ 156)، ومسلم (770)، وأبو داود (768)، والترمذي (3420)، والنسائي (3/ 212 - 213).
[646]
- وعَن عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ قَالَ: وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ حَنِيفًا وَمَا
ــ
وقوله: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل: خص هؤلاء الملائكة بالذكر تشريفًا لهم؛ إذ بهم ينتظم هذا الوجود؛ إذ قد أقامهم الله تعالى في ذلك. وفاطر السماوات والأرض؛ أي: مبتدئ خلقهما. والغيب: ما غاب عن عياننا. والشهادة: ما شاهدناه؛ أي: علمناه بمشاهدتنا. وتحكم بين عبادك: تقضي وتبيّن الحق. اهدني؛ أي: أرشدني ودلَّني على صواب ما اختلف فيه. بإذنك؛ أي: بتمكينك وتسخيرك. والصراط: الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
وقوله: وجهت وجهي؛ أي: صوَّبت وجهي، وأخلصت في عبادتي. وحنيفًا؛ أي: مائلا عن جميع المعبودات سوى الله تعالى. ونسكي؛ أي: ما أتَنسكُ به من القُرب والعبادات. والمحيا والممات؛ أي: الحياة والموت، كما قال للأنصار: المحيا محياكم، والممات مماتكم (1). والعالمين:
(1) رواه أحمد (2/ 538)، ومسلم (1780) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا مِنَ المُسلِمِينَ، اللهمَّ أَنتَ المَلِكُ لا إِلهَ إِلا أَنتَ، أَنتَ رَبِّي وَأَنَا عَبدُكَ، ظَلَمتُ نَفسِي وَاعتَرَفتُ بِذَنبِي؛ فَاغفِر لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنتَ، وَاهدِنِي لأَحسَنِ الأَخلاقِ، لا يَهدِي لأَحسَنِهَا إِلا أَنتَ، وَاصرِف عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنتَ، لَبَّيكَ وَسَعدَيكَ، وَالخَيرُ كُلُّهُ فِي يَدَيكَ، وَالشَّرُّ لَيسَ إِلَيكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيكَ،
ــ
الخلق. وأصله من العلم، وقيل: من العلامة. وأنا من المسلمين؛ أي: مسلم من المسلمين المتمكنين في الاستسلام، الذين سلموا أنفسهم للنيران (1)، وأموالهم للضيفان، وولدهم للقربان، وفوّضوا جميع أمورهم للرحمن. وفي التلاوة: وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ؛ أي: أوّل سابق بالنسبة إلى زمانه.
وقوله: واهدني لأحسن الأخلاق؛ أي: لأكملها وأفضلها؛ وهي: الخُلق الصحيح، والكفَّ عن القبيح. وقيل: للقيام بالحقوق، والعفو عن العقوق؛ كما قال: أن تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك (2). وقد أجاب الله تعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك، فجمع له منها ما تفرق في العالمين؛ حتى قال له تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ولبيك: معناه: إجابة لك بعد إجابة. وسعديك؛ أي: مساعدة بعد مساعدة، وهما من المصادر التي لا تستعمل إلا مضافة مثنَّاة، وقد تقدّم القول في: بيدك الخير.
وقوله: والشرّ ليس إليك؛ أي: لا يضاف إليك مخاطبة ونسبة، تأدُّبًا، مع أنه بقضاء الله تعالى وقدره، وخلقه واختراعه؛ كالخير، كما قال الله تعالى:
(1) أي: نيران الحروب والأعداء، أي: ضحّوا بأنفسهم في سبيل الله تعالى.
(2)
رواه أحمد (4/ 148 و 158).
تَبَارَكتَ وَتَعَالَيتَ، أَستَغفِرُكَ وأتوب إِلَيكَ! ! وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: اللهمَّ لَكَ رَكَعتُ، وَبِكَ آمَنتُ، وَلَكَ أَسلَمتُ، خَشَعَ لَكَ سَمعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي وَعَظمِي وَعَصَبِي. وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: اللهمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمدُ مِلءَ السَّمَاوَاتِ الأَرضِ، وَمَا بَينَهُمَا، وَمِلءَ مَا شِئتَ مِن شَيءٍ بَعدُ. وَإِذَا سَجَدَ قَالَ:
ــ
{قُل كُلٌّ مِن عِندِ اللَّهِ} وكما قال: {وَإِن يَمسَسكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِن يَمسَسكَ بِخَيرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ}
وقوله: خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي وعصبي؛ أي: أخذ كل عضو من هذه الأعضاء حظه من الخضوع والتذلل؛ أي: سكنت وافتقرت، وإن كان أصل الخشوع في القلب؛ لكن ثمرته تظهر على الجوارح والأعضاء، فسُمِّيَ بذلك: خشوعًا، كما قال تعالى:{تَرَى الأَرضَ خَاشِعَةً} ؛ أي: متذللة، مفتقرة لما تحيا به من الماء، أو يكون هذا على الإغياء (1) والتشبيه، كما قال:
لا عُضوَ لي إلا وفيه محبةٌ
…
فكأن أعضائي خلقن قلوبًا
وهذا هو النور الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتقدم. وقد تقدم القول في: ملء السماوات والأرض، في الطهارة.
وقوله: وملء ما شئت من شيء بعد: يحتمل أن يكون معناه: من شيء يمكن أن يخلقه؛ يكون أكبر من السماوات والأرض، ويحتمل أن يراد به العرش والكرسي، ففي الحديث: إن السماوات والأرض في الكرسي كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض، والكرسي وما فيه في العرش كحلقه ملقاة في فلاة (2). والله تعالى أعلم. ومقصود هذا الحديث: الإغياء في تكثير الحمد والثناء.
(1) هو بلوغ الغاية في الأمر.
(2)
رواه الآجري وأبو حاتم البستي والبيهقي. (تفسير القرطبي 3/ 278).
اللهمَّ لَكَ سَجَدتُ، وَبِكَ آمَنتُ، وَلَكَ أَسلَمتُ، سَجَدَ وَجهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ الله أَحسَنُ الخَالِقِينَ. ثُمَّ يَكُونُ مِن آخِرِ مَا يَقُولُ بَينَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسلِيمِ: اللهمَّ اغفِر لِي مَا قَدَّمتُ وَمَا أَخَّرتُ، وَمَا أَسرَرتُ وَمَا أَعلَنتُ وَمَا أَسرَفتُ، وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنتَ المُقَدِّمُ وَأَنتَ المُؤَخِّرُ لا إِلهَ إِلا أَنتَ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كَانَ إِذَا استَفتَحَ الصَّلاةَ كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: وَجَّهتُ وَجهِي. وَقَالَ: وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ. وَقَالَ: وَإِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ:
ــ
وبعد ظرف مبني على الضم؛ لأنه قطع عن المضاف إليه، مع أنه مراد، ومعناه هنا: بعد السماوات والأرض المذكورة قبل.
وقوله: وشق سمعه وبصره؛ أي: خلق فيه السمع والبصر. وقد يحتج بإضافة السمع إلى الوجه من يقول: إن الأذنين من الوجه فيغسلان بغسله، ولا حجة فيه؛ لأنه يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه (1). فجعل الأذن غاية للرأس، فهي منه؛ لأنا نقول بموجب ذلك، ونفرق بين السمع والأذن؛ فإن السمع الإدراك الذي في الأذن لا الأذن؛ ولأن الوجه لا يتضمن الأذنين كما تقدم.
وقوله: أنت المقدم وأنت المؤخر؛ أي: تقدم من تشاء فتجعلهم أنبياء وأولياء، وعلماء، وفضلاء، وتؤخر من شئت فتجعله فرعون، وأبا جهل. أو تملك الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وعلى الجملة فكل تقديم وتأخير منه.
وقوله: كان إذا استفتح الصلاة كبر ثم قال: وجهت وجهي: أخذ به
(1) رواه مالك في الموطأ (1/ 31)، والنسائي (1/ 74)، وابن ماجه (282) من حديث الصُّنابحي رضي الله عنه.
سَمِعَ الله لِمَن حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمدُ. وَقَالَ: وَصَوَّرَهُ فَأَحسَنَ صُوَرَهُ. وَقَالَ: إِذَا سَلَّمَ قَالَ: اللهمَّ اغفِر لِي مَا قَدَّمتُ. . . إِلَى آخِرِ الحَدِيثِ.
رواه أحمد (1/ 102)، ومسلم (771)، وأبو داود (761)، والترمذي (3423).
* * *
ــ
الشافعي، وأن هذا التوجيه سنة راتبة في صلاة الفرض بعد التكبير، ولا حجة له فيه؛ لأن هذا يحتمل أنه كان في صلاة الليل فقط، وتكون الصلاة يراد بها صلاة الليل فقط، ولئن سلمنا أنه للعموم لزم منه أن يكون الدعاء المذكور في هذا الحديث في الركوع والسجود سنة راتبة في كل صلاة، ولا قائل به؛ فإن مساق الحديث واحد، فلِمَ يفرق بين التوجيه وغيره من الأدعية والأذكار. ولئن سلمنا الفرق فعندنا ما يعارض ذلك، وهو أمران:
أحدهما: أنه قال في الرواية الأولى: إنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي، ولم يذكر التكبير، وظاهره إذا أراد القيام، فيكون قبل التكبير.
وثانيهما: أنه لو كان ذلك سنة راتبة لنقله أهل المدينة بالعمل؛ إذ مثل ذلك لا يخفى عليهم مع شدة بحثهم عن أفعاله وأحواله، وخصوصًا في الصلاة الكثيرة التكرار، العظيمة الموقع، فلما كان ذلك علمنا: أنه ليس بسنة راتبة، ولا يُمنع من قاله كسائر الأذكار والأدعية. وقد روى الدارقطني في حديث علي المتقدم: أن ذلك كان في المكتوبة (1)، فإن صح ذلك كان دليلا على جواز وقوع ذلك في الصلاة المكتوبة، إذ لم يضر بمن خلفه بطول القيام؛ لا أنه سنة راتبة؛ لما تقدم، والله أعلم.
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 32 و 33) من حديث علي رضي الله عنه. ولم نجده في سنن الدارقطني كما أشار المصنِّف رحمه الله.