الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ: فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنتُم تَنتَثِلُونَهَا.
رواه أحمد (2/ 264 و 455)، والبخاري (6998)، ومسلم (523)(6)، والترمذي (1553)، والنسائي (6/ 3 - 4).
* * *
(40) باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
-
(524)
(9)[418]- عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المَدِينَةَ فَنَزَلَ فِي عُلوِ المَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُم: بَنُو عَمرِو بنِ عَوفٍ، فَأَقَامَ فِيهِم أَربَعَ عَشرَةَ لَيلَةً، ثُمَّ إِنَّهُ أَرسَلَ إِلَى مَلأ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاؤوا مُتَقَلِّدِينَ بِسُيُوفِهِم
ــ
ويتسع سلطانها، ويظهر دينها، ثم إنه وقع ذلك كذلك، فملكت أمته من الأرض ما لم تملكه أمة من الأمم فيما علمناه، فكان هذا الحديث من أدلة نبوته صلى الله عليه وسلم. ووجه مناسبة هذه الرؤيا: أن من ملك مفتاح المغلق فقد تمكّن من فتحه، ومن الاستيلاء على ما فيه.
وقوله: وأنتم تنتثلونها؛ أي: تستخرجون ما فيها من الكنوز والمنافع؛ من قولهم: نثل كنانته: إذا استخرج ما فيها من السهام، والله أعلم.
(40)
ومن باب: ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
الملأ: أشراف القوم وساداتهم. سُمّوا بذلك؛ لأنهم أَملِيَاء بالرأي والغِنَى. وبنو النجار ق يلة من الأنصار، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك: أن هاشِمًا تزوج امرأة من بني النجار تُسَمَّى: سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي بن النّجار، فولدت له عبد المطلب بن هاشم، فمن هنا كانوا أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: فَكَأَنِّي أَنظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكرٍ رِدفُهُ، وَمَلأُ بَنِي النَّجَّارِ حَولَهُ حَتَّى أَلقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَيثُ أَدرَكَتهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِالمَسجِدِ، قَالَ: فَأَرسَلَ إِلَى مَلأ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاؤوا، فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ! ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُم هَذَا، قَالُوا: لا وَاللَّهِ! لا نَطلُبُ ثَمَنَهُ إِلَاّ إِلَى اللَّهِ عز وجل. قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ، كَانَ فِيهِ نَخلٌ وَقُبُورُ المُشرِكِينَ وَخِرَبٌ. فَأَمَرَ
ــ
وقوله: ثامنوني بحائطكم؛ أي: اطلبوا ثمنه، وبايعوني به. والحائط: بستان النخل.
فقالوا: لا والله ما نطلب ثمنه إلا لله عز وجل، وهذا ينص على أنهم لم يأخذوا منه ثمنًا، وإنما وهبوه للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر محمد بن سعد في تاريخه الكبير عن الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه من بني عَفراء (1) بعشرة دنانير دفعها عنه أبو بكر الصديق (2)، فإن صحّ هذا فلم يقبله النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالثمن؛ لأنه كان ليتيمين، وفي هذا دليل على لزوم بناء المساجد في القرى التي يُستوطن بها؛ لأجل الجمعة، ولإظهار شعائر الإسلام.
وقوله: وكانت فيه نخل وقبور المشركين وخِرَب، رُوي بفتح الخاء وكسر الراء: جمع خَرِبة؛ مثل: كَلِمَة وكَلِم، وبكسر الخاء وفتح الراء: جمع خِربة بسكون الراء، لغتان فيما يخرب من البناء، والثانية لتميم، هذا هو الصحيح في الرواية والمعنى. وقد فسَّره حيث قال: وبالخِرَب فسُوِّيت. وقد استبعد الخطابي ذلك المعنى، وأخذ يقدِّر اللفظ تقديرات، فقال: لعل الصواب: خُرَب: جمع خُربة؛ وهي الخروق في الأرض، أو لعلَّها: جرف جمع: جِرَفَةٍ، وهي جمع
(1) في (م): عمرو. وفي وفاء الوفا (1/ 323): أنَّ الحائط كان ليتيمين هما سهل وسهيل ابني عمرو، وكانا في حجر ابن عفراء.
(2)
الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 239 - 240).
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّخلِ فَقُطِعَ، وَبِقُبُورِ المُشرِكِينَ فَنُبِشَت، وَبِالخِرَبِ فَسُوِّيَت.
ــ
جرف. قال: وأبينُ منه إن ساعدت الرواية -: حَدَبٌ جمع حَدَبَةٌ؛ وهي ما ارتفع من الأرض. وهذا منه تكلّف لا يحتاج إليه مع صحة الرواية والمعنى كما قدّمناه، وفيه دليل على جواز قطع المثمر من الشجر إذا احتيج إليه؛ من نكاية في عدو، وإزالة ضرر، أو ما يخاف منه.
وقوله: وبقبور المشركين فنبشت؛ إنما نبش قبورهم؛ لأنهم لا حرمة لهم. فإن قيل: كيف جاز نبشهم وإخراجهم من قبورهم، والقبر مختص بمن دفن فيه، مُحَتبس عليه، قد حازه الميت، فلا يجوز بيعه، ولا نقله عنه؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن تلك القبور لم تكن أملاكًا لمن دفن فيها، بل لعلها غصب، ولذلك باعها مُلَاّكُها.
الثاني: على تسليم أنها حُبست، فذلك إنما يلزم في تحبيس المسلمين، أما تحبيس الكفار فلا؛ إذ لا يصح منهم التقرب إلى الله تعالى، لا يقال: فهذا العتق يلزمهم إذا رفعوا أيديهم عن المعتق، لأنا نقول في العتق: إنه أمر عظيم يتشوّف الشرع إليه ما لم يتشوّف للحبس ولا لغيره، ولأنه تعلق به حقٌّ لآدمي، فجرى ذلك مجرى هِباتهم وأعطياتهم اللازمة.
ويمكن أن يقال: دعت الحاجة والضرورة إلى النبش فجاز. وقد اختلف في نبش قبور الكفار لطلب مال، فكرهه مالك؛ لأنها مواضع سخط وعذاب؛ فلا تدخل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تدخلوا بيوت هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم (1). فمن دخلها لطلب الدنيا كان بضد ذلك. وأجازه جماعة من أصحاب مالك محتجِّين بأن الصحابة نَبَشَت قبر أبي رِغَال،
(1) رواه أحمد (2/ 92)، والبخاري (4420)، ومسلم (2980) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قَالَ: فَصَفُّوا النَّخلَ قِبلَةً لَهُ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيهِ حِجَارَةً، قَالَ: فَكَانُوا يَرتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُم، وَهُم يَقُولُونَ:
ــ
واستخرجت منه قضيب الذهب الذي أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه مدفون معه. واتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم مسجده في تلك البقعة دليل على أن القبور إذا لم يبق منها ولا من الموتى فيها بقية (1) جازت الصلاة فيها.
واختلف العلماء في جواز الصلاة في المقابر جملة؛ فأجازه مالك وأكثر أصحابه - وإن كان القبر بين يديه -، وهو مذهب الحسن البصري والشافعي وآخرين. وروي أيضا عن مالك الكراهة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وجماعة من السلف. وحكى العراقيون عن المذهب: كراهية الصلاة في القديمة دون الجديدة. وقد كره العلماء الصلاة في مقابر المشركين بكل حال، وعليه تأوّل أكثرهم النهي عن الصلاة في المقبرة؛ قالوا: لأنها حفرة من حفر النار، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في الجنائز.
وفي بنائه صلى الله عليه وسلم مسجده بالجذوع والجريد دليل على ترك الزخرفة في المساجد والتأنق فيها، والإسراف. بل قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يقتضي النهي عن زخرفتها وتشييدها، فقال: ما أُمِرتُ بتشييد المساجد، قال: لتزخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى (2).
وقوله: فكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم؛ اختلف أصحاب العَروض وعلم الشعر في أعاريض الرَّجَز هل هي من الشعر؟ والصحيح أنه من الشعر؛ لأن الشعر هو كلام موزون تُلتَزَم فيه قوافٍ، والرَّجَزُ كذلك. وأيضًا: فإن قريشًا لما اجتمعوا وتراؤوا فيما يقولون للناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قائل: نقول: هو شاعر، فقالوا: والله لتكذبنّكم العربُ؛ قد عرفنا الشعر كلّه، هزجه، ورجزه، ومقبوضه، ومبسوطه، فذكروا الرجز من جملة أنواع الشعر، وإنما أخرجه من جنس الشعر من
(1) ساقط من (ع).
(2)
رواه البخاري تعليقًا (1/ 539)، وأبو داود (448).
اللَّهُمَّ إِنَّهُ لا خَيرَ إِلا خَيرُ الآخِرَه
…
فَانصُرِ الأَنصَارَ وَالمُهَاجِرَه
رواه أحمد (3/ 118 و 123)، والبخاري (1868)، ومسلم (524)(9)، وأبو داود (453)، والنسائي (2/ 40)، وابن ماجه (742).
* * *
ــ
أشكل عليه إنشاد النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فقال: لو كان شعرًا لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا عَلَّمنَاهُ الشِّعرَ} وهذا ليس بشيء؛ لأن من أنشد القليل من الشعر، أو قاله، أو تمثل به على الندور، لم يستحق به اسم الشاعر، ولا يقال فيه: إنه تعلم الشعر، ولا ينسب إليه، ولو كان ذلك للزم أن يقال على الناس كلهم: شعراء، ويعلمون الشعر؛ لأنهم لا يَخلَونَ أن يعرفوا كلامًا موزونًا مرتبطًا على أعاريض الشعر.
ثم قوله: كانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ليس فيه دليل راجح على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان المنشد، بل الظاهر منهم أنهم هم كانوا المرتجزين، وبحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الواو للحال، ورسول: مبتدأ، ومعهم: الخبر. والجملة في موضع الحال، هذا الظاهر، ويحتمل أن يكون معطوفًا على المضمر في: يرتجزون، والله تعالى أعلم.
وهذا الحديث وشِبهُهُ يُستدلّ به على جواز إنشاد الشعر، والاستعانة بذلك على الأعمال والتنشيط.
ومن هنا أخذت الصوفية إباحة السماع، غير أنهم اليوم أفرطوا في ذلك، وتعدَّوا فيه الوجه الجائز، وتذرّعوا بذلك إلى استباحة المحرمات من أصناف الملاهي؛ كالشبابات، والطارات، والرقص، وغير ذلك. وهذه أفعال المُجَّان أهل البطالة والفسوق المُدخِلين في الشريعة ما ليس منها، أعاذنا الله من ذلك بمنه.
وقوله: كان يصلي في مرابض الغنم؛ حجة لمالك على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه، وقد قدّمنا ذلك.