الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(77) باب التغليظ في التخلف عن الجماعة والجمعة
[536]
- عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَثقَلَ صَلاةٍ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلاةُ العِشَاءِ وَصَلاةُ الفَجرِ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوهُمَا وَلَو حَبوًا، وَلَقَد هَمَمتُ أَن آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُم حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إِلَى قَومٍ لا يَشهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيهِم بُيُوتَهُم بِالنَّارِ.
ــ
(77)
ومن باب: التغليظ في التخلف عن الجماعة
ثقل صلاة العشاء والفجر على المنافقين للمشقة اللاحقة من المحافظة عليهما لأنهما في وقت نوم وركون إلى الراحة، ولمشقة الخروج إليهما في الظلمة، إلى غير ذلك، فلا يتجشَّم هذه المشاق إلا من تيقن ثواب الله ورجاه وخاف عقاب الله واتقاه، وذلك هو المؤمن. وأما المنافق فكما قال الله تعالى فيهم:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا}
وقوله ولو يعلمون ما فيهما؛ أي في فعلهما من الثواب وفي تركهما من العقاب لأتوهما أي لجاؤوا إليهما ولو حبوا؛ أي محتبين يزحفون على ألياتهم من مرض أو آفة.
وقوله ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام إلى قوله فأحرق عليهم، استدل بهذا الهمّ داود وعطاء وأحمد وأبو ثور على أن صلاة الجماعة فرض، ولا حجة لهم فيه؛ لأنه هَمَّ ولم يفعل، وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة، وقد كان التخلف عن الصلاة في الجماعة علامة من علامات النفاق عندهم كما قال عبد الله بن مسعود:
وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ تحرق بُيُوت عَلَى مَن فِيهَا.
ــ
لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. وكما قال صلى الله عليه وسلم: بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح، لا يستطيعونهما! (1)
ويفيد هذا الحديث تأكُّدَ أمر شهود الصلوات في الجماعة، ولذلك قال جماعة من أمتنا: إن الجماعة فيها واجبة على الكفاية، من أجل أن إقامة السنن وإحياءها واجب على الكفاية؛ أي تركها يؤدي إلى إماتتها. وذهب عامة العلماء إلى أنها سنة مؤكدة، كما قد دللنا عليه بقوله صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ (2)؛ إذ حاصله أن صلاة الفذ صحيحة ووقوعها في الجماعة أفضل. قال القاضي عياض: اختلف في التمالؤ (3) على ترك ظاهر السنن هل يقاتل عليه أم لا؟ والصحيح قتالهم؛ لأن في التمالي عليها إماتتها.
قلت: ويحتمل أن يكون ذلك التهديد لقوم من المؤمنين صلوا في بيوتهم لأمر توهّموه مانعًا ولم يكن كذلك. ويؤيد هذا التأويل ما في كتاب أبي داود من الزيادة في هذا الحديث، فقال: لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزمًا من حطب، ثم آتي قومًا يصلّون في بيوتهم ليست بهم علّة فأحرقها عليهم. والمنافقون لا يصلون في بيوتهم، إنما يصلون في الجماعة رياء وسمعة، وأما إذا خلوا فكما وصفهم الله تعالى به من الكفر والاستهزاء. وعلى هذا التأويل تكون هذه الجماعة المهدَّد على التخلُّف عنها هي الجمعة، كما قد نص عليه في حديث عبد الله بن مسعود، فيحمل المطلق منهما على المقيَّد، والله تعالى أعلم.
وفي هذا الحديث دليل على جواز العقوبة في المال.
وفي قوله ثم تُحَرَّق بيوتٌ على من فيها ما يدل على أن تارك الصلاة
(1) رواه مالك في الموطأ (1/ 130) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه برقم (534).
(3)
أي: التمالؤ، وهو الاجتماع على الشيء.
وَفِي رِوَايَةٍ: ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها؛ يعني صلاة العشاء.
رواه أحمد (2/ 424)، والبخاري (2/ 44) تعليقًا، ومسلم (651)(252 و 253)، وأبو داود (548 و 549)، والترمذي (217)، والنسائي (2/ 107)، وابن ماجه (797).
[537]
وعَن عَبدِ الله أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِقَومٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الجُمُعَةِ: لَقَد هَمَمتُ أَن آمُرَ رَجُلا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الجُمُعَةِ بُيُوتَهُم.
رواه أحمد (1/ 402 و 449 و 461)، ومسلم (652).
ــ
متهاونًا يقتل، وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غِرَّة.
وقوله ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها، وقال البخاري في آخِرَ هذا الحديث: والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مِرمَاتين حسنتين لشهد العشاء! والعرق والعراق: العظم الذي عليه اللحم. والمرماة - بكسر الميم - صحيح الرواية فيه كذلك. وقد اختلف فيها؛ فقال ابن حبيب: هما السهمان. وقال الأخنس: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصال محددة يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب. وهي المرماة والمدحاة، والجمع مرام ومداح. وقال أبو عبيد: المرماة ما بين ظلفي الشاة. ومعنى هذا الحديث أن المنافق لجهله بما أعدّ الله على شهودها في الجماعة يكسل عنها وتثقل عليه، ولقلة رغبته في أعمال الخير، فلو عَنَّ له حظ يسير من الدنيا كالمرماة أو كالعرق لبادر إليه وأتى المسجد في أي وقت كان إذا كان ذلك الحظ في المسجد، والله تعالى أعلم.
[538]
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَيسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى المَسجِدِ! فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَن يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: هَل تَسمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَأَجِب.
رواه مسلم (653)، والنسائي (2/ 109).
(654)
(257)[539]- وعَن عَبدِ الله قَالَ: مَن سَرَّهُ أَن يَلقَى الله غَدًا مُسلِمًا فَليُحَافِظ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ الله عز وجل
ــ
وقول أبي هريرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى هو ابن أم مكتوم على ما ذكره أبو داود والدارقطني (1).
وقوله فرخص له، فلما ولى دعاه، هذا الترخيص إنما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بناء منه على أنه لما لم يكن له قائد يقوده تعذّر عليه المشي إلى المسجد، ثم إنه لما تبين له من حاله أنه يتمكن من ذلك كما قد يتفق لبعض العميان قال له: لا أجد لك رخصة - كما رواه أبو داود في هذا الخبر. ودليل صحة ما ذكرناه أنه صلى الله عليه وسلم لو تحقق له عذرًا (2) لعذره كما رخص لعتبان (3)، ولما قد أجمعت الأمة عليه من سقوط حضور الجماعة عن ذَوي الأعذار.
وقوله صلى الله عليه وسلم هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: أجب! يدل على أن ذلك كان في الجمعة، وحينئذ لا تكون فيه حجة لداود ولا لمن استدل به
(1) رواه أبو داود (553)، والنسائي (2/ 110)، وابن ماجه (792)، والدارقطني (1/ 381) من حديث ابن أم مكتوم رضي الله عنه.
(2)
في المعجم: تحقَّق فلانٌ الشيءَ.
(3)
سيرد في التلخيص برقم (543).
شَرَعَ لِنَبِيِّكُم صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِن سُنَنِ الهُدَى، وَلَو أَنَّكُم صَلَّيتُم فِي بُيُوتِكُم كَمَا يُصَلِّي هَذَا المُتَخَلِّفُ فِي بَيتِهِ لَتَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم صلى الله عليه وسلم، وَلَو تَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم لَضَلَلتُم، وَمَا مِن رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعمِدُ إِلَى مَسجِدٍ مِن هَذِهِ المَسَاجِدِ إِلا كَتَبَ الله لَهُ بِكُلِّ خَطوَةٍ يَخطُوهَا حَسَنَةً وَيَرفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَد رَأَيتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَد كَانَ الرَّجُلُ يُؤتَى بِهِ يُهَادَى بَينَ الرَّجُلَينِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ.
رواه مسلم (654)(257)، وأبو داود (550)، والنسائي (2/ 107 و 109)، وابن ماجه (777).
* * *
ــ
على وجوب الجماعة في غير الجمعة، ولو سُلِّم أن المراد به الجماعة لسائر الصلوات لأمكن أن يقال: كان ذلك سدًّا لباب الذريعة إلى إسقاطها لأجل المنافقين، كما قال عبد الله: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق أو مريض.
وقوله في حديث ابن مسعود ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتموها لضللتم، هذا يصلح أن يتمسك به من قال إن إقامة الجماعة للصلوات فرض على الكفاية كما حكيناه، ويصلح لمن يقول إنها سنة، ويكون إطلاقه الضلال على التاركين إذا تمالؤوا على تركها كما قدمناه. والضلال ضد الهدى، وأصله من ضلَّ عن الطريق إذا أخطأه وعدل عنه. والسَّنَنُ روي بفتح السين وهو الطريق، وبضمها جمع سُنَّة وهي الطريقة. ويهادَى بين الرجلين: يتماشى بينهما معتمدًا عليهما لمرضه وضعفه، والله أعلم.