الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(59) باب قدر ما يقعد الإمام بعد السلام وما يقال بعده
(592)
[478]- عَن عَائِشَةَ قَالَت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ لَم يَقعُد إِلا مِقدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنتَ السَّلامُ، وَمِنكَ السَّلامُ، تَبَارَكتَ ذَا الجَلالِ وَالإِكرَامِ.
ــ
(59)
ومن باب: قدر ما يقعد الإمام بعد السلام
قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مِقدَارَ (1) ما يقول: اللهم أنت السلام
…
الحديث؛ دليل لمالك: على كراهيته للإمام المقام في موضعه الذي صلى فيه بعد سلامه، خلافًا لمن أجاز ذلك، والصحيح: الكراهة لهذا الحديث، ولما رواه البخاري من حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم يمكث في مكانه يسيرًا. قال ابن شهاب: فنُرَى - والله أعلم - لكي ينفذ من ينصرف من النساء. ووجه التمسك بذلك أنهم اعتذروا عن المقام اليسير الذي صدر عنه عليه الصلاة والسلام، وبينوا وجهه، فدل ذلك: على أن الإسراع بالقيام هو الأصل والمشروع، وأما القعود فإنما كان منه ليستوفي من الذكر ما يليق بالسلام الذي انفصل به من الصلاة، ولينصرف النساء. وقد روى البخاري أيضًا عن سمرة بن جندب: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى أقبل بوجهه (2)، وهذا يدل على أن إقباله على الناس كان متصلا بفراغه، ولم يكن يقعد. وقد روى أبو أحمد بن عدي ما هو أنصّ من هذا كله عن أنس قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر، فكان إذا سلم وثب كأنه يقوم عن رَضفَة (3). وهذا الحديث
(1) في (ل) و (ط): قدر.
(2)
رواه البخاري (1386).
(3)
رواه ابن عدي في الكامل (4/ 1516).
"الرضفة": الحجر المحمّى على النار.
رواه أحمد (6/ 62 و 184 و 235)، ومسلم (592)، والترمذي (298)، والنسائي (3/ 69)، وابن ماجه (924).
[479]
- وعَن ثَوبَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انصَرَفَ مِن صَلاتِهِ استَغفَرَ ثَلاثًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنتَ السَّلامُ، وَمِنكَ السَّلامُ، تَبَارَكتَ ذَا الجَلالِ وَالإِكرَامِ. قَالَ الأَوزَاعِيُّ: تَقُولُ: أَستَغفِرُ اللَّهَ، أَستَغفِرُ اللَّهَ.
ــ
وإن لم يكن في الصحة مثل ما تقدم، فهو عاضد للصحيح، ومبيِّن لمضمونه. وإذا كره له القعود في موضع صلاته، فأحرى وأولى أن تكره له الصلاة فيه. وقد روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصلِّي الإمام في الموضع الذي صلّى فيه حتى يتحول (1). ويعتضد هذا من جهة المعنى: بأن ذلك الموضع إنما استحقه الإمام للصلاة التي يقتدى به فيها، فإذا فرغت ساوى الناس، وزال حكم الاختصاص، والله أعلم.
وقوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام؛ السلام الأول: اسم من أسماء الله تعالى، كما قال تعالى:{السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ} والسلام الثاني: السلامة، كما قال تعالى: فَسَلَامٌ لَكَ مِن أَصحَابِ اليَمِينِ، ومعنى ذلك: أن السلامة من المعاطب والمهالك إنما تحصل لمن سلّمه الله تعالى، كما قال:{وَإِن يَمسَسكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ فَلا رَادَّ لِفَضلِهِ}
وقوله: تباركت ذا الجلال والإكرام؛ تباركت: تفاعلت؛ من البركة، وهي الكثرة والنماء، ومعناه: تعاظمت؛ إِذ كثرث صفات جلالك وكمالك. وذا الجلال: ذا العَظَمة والسلطان، وهو على حذف حرف النداء، تقديره: يا ذا الجلال. والإكرام: الإحسان وإفاضة النعم.
(1) رواه أبو داود (616).
رواه أحمد (5/ 275 و 279)، ومسلم (591)، وأبو داود (1513)، والترمذي (300)، والنسائي (3/ 68)، وابن ماجه (928).
[480]
- وَعَنِ المُغِيرَة بنِ شُعبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعطَيتَ، وَلا مُعطِيَ لِمَا مَنَعتَ، وَلا يَنفَعُ ذَا الجَدِّ مِنكَ الجَدُّ.
رواه أحمد (245 و 247)، والبخاري (844)، ومسلم (593)، وأبو داود (1505)، والنسائي (3/ 70).
[481]
- وَعَن أَبِي الزُّبَيرِ، قَالَ: كَانَ ابنُ الزُّبَيرِ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَلا نَعبُدُ إِلا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعمَةُ وَلَهُ الفَضلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ. وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ.
رواه أحمد (4/ 4)، ومسلم (594)(139)، وأبو داود (1506 و 1507)، والنسائي (3/ 75).
[482]
- وَعَن أَبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
ــ
وقوله في حديث المغيرة: ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجدُّ؛ الجد: الحظ والغنى، ومعناه: أن ذا الغنى لا ينتفع بغناه، ولا يحول بينه وبين ما يريده الله تعالى له؛ إذ لا حول ولا قوة إلا به. والجد ينصرف في اللغة على أوجه متعددة.
فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَى وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ. فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعتِقُونَ وَلا نُعتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفَلا أُعَلِّمُكُم شَيئًا تُدرِكُونَ بِهِ مَن سَبَقَكُم، وَتَسبِقُونَ بِهِ مَن بَعدَكُم، فَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفضَلَ مِنكُم إِلا مَن صَنَعَ مِثلَ مَا صَنَعتُم؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحمَدُونَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: تُمَّ رَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: سَمِعَ إِخوَانُنَا أَهلُ الأَموَالِ بِمَا فَعَلنَا، فَفَعَلُوا مِثلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِهِ مَن يَشَاءُ.
رواه البخاري (843)، ومسلم (595)(142)، وأبو داود (1504).
ــ
وقول المهاجرين: ذهب أهل الدثور بالأجور. واحد الدثور: دَثرٌ، وهو المال الكثير، ومنه الحديث الآخر: وابعث راعيها في الدَّثرِ (1). وكذلك الدِّبرُ بكسر الدال، وبالباء بواحدة. قال ابن السكيت: الدّبرُ: المال الكثير. ووقع في السيرة في خبر النجاشي: دَبرٌ من ذهب، بفتح الدال، قال ابن هشام: ويقال: دبر. قال: وهو الجبل بلغة الحبشة (2). قال الهروي: يقال: مال دثر، ومالان دثر، وأموال دثر، وحكى أبو عمر المطرز: إن الدثر بالثاء تثنى وتجمع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. استدل به من يفضل الغنى على الفقر، وهي مسألة اختلف الناس فيها على خمسة أقوال: فمن قائل بتفضيل الغنى، ومن قائل بتفضيل الفقر، ومن قائل بتفضيل الكفاف، ومن قائل رابع: يَرُدُّ هذا التفضيل إلى اعتبار أحوال الناس في ذلك، ومن قائل خامس: توقف، ولم
(1) ذكره ابن عبد البر في أسد الغابة (3/ 96).
(2)
سيرة ابن هشام (1/ 238).
[483]
- وَعَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَتلِكَ تِسعٌ وَتِسعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المِائَةِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَت خَطَايَاهُ، وَإِن كَانَت مِثلَ زَبَدِ البَحرِ.
رواه أحمد (2/ 371)، ومسلم (597).
ــ
يفضل واحدًا منهما على الآخر. والمسألة لها غور، وفيها أحاديث متعارضة، ولعلنا نتكلم عليها تفصيلا إن شاء الله تعالى. وقد كتب الناس فيها كتبًا كثيرة، وأجزاء عديدة. والذي يظهر لي في الحال: أن الأفضل من ذلك ما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولجمهور صحابته رضوان الله تعالى عليهم، وهو الفقر غير المدقع. ويكفيك من هذا: أن فقراء المسلمين - كما رُوي: يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، وأصحاب الأموال محبوسون على قَنطَرة بين الجنة والنار يُسألون عن فضول أموالهم. (1) وعلى هذا يتعين تأويل قوله تعالى:{ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وقد تأوله بعضهم بأن قال: إن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى الثواب المترتب على الأعمال، الذي به يحصل التفضيل عند الله، فكأنه قال: ذلك الثواب الذي أخبرتكم به، لا يستحقه الإنسان بحسب الأذكار، ولا بحسب إعطاء الأموال، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء، والله تعالى أعلم. ولم يذكر في هذه الرواية تمام المائة، وذكره في الرواية الأخرى وعيّن: أنه التهليل، وفي رواية: أن زيادةَ تكبيرةِ كمّلت المائة. وهذا يدل على عدم تعيّن ما تُكُمِّلَ به المائة، بل أي شيء قال من ذلك حصل له ذلك الثواب، والله تعالى
(1) رواه الترمذي (2354) من حديث أبي هريرة. و (2352) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
[484]
- وعَن كَعبِ بنِ عُجرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُعَقِّبَاتٌ لا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ (أَو فَاعِلُهُنَّ) دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكتُوبَةٍ، ثَلاثٌ وَثَلاثُونَ تَسبِيحَةً، وَثَلاثٌ وَثَلاثُونَ تَحمِيدَةً، وَأَربَعٌ وَثَلاثُونَ تَكبِيرَةً.
رواه مسلم (596)(145)، والترمذي (3409)، والنسائي (3/ 75).
* * *
ــ
أعلم.
وقد اتفق مساق هذه الأحاديث والتي قبلها: على أن أدبار الصلوات أوقات فاضلة للدعاء والأذكار، فيرتجى فيها القبول، ويُبلَغُ ببركة التفرغ لذلك إلى كل مأمول، وتسمى هذه الأذكار: معقِّبات؛ لأنها تقال عَقِيب الصلوات، كما قال في حديث أبي هريرة: دبر كل صلاة؛ أي: آخرها. ويقال: دُبر بضم الدال، وحكى أبو عمر المطرِّز (1) في اليواقيت: دَبر كل شيء بفتح الدال: آخر أوقات الشيء: الصلاة وغيرها. قال: وهذا هو المعروف في اللغة، قال: وأما الجارحة: فبالضم. وقال الداودي عن ابن الأعرابي: دُبُر الشيء، ودَبرُهُ، بالوجهين: آخر أوقات الشيء، والدِّبار جمعه، ودابر كل شيء: آخره أيضًا. وأما اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة مما استعاذ في الدعاء بما دعا - وإن كان قد أُمِّنَ قبل الاستعاذة، وأُعطي قبل السؤال - فوفاء بحق العبودية، وقيام بوظيفة الشكر وبحق العبادة، كما قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا (2).
* * *
(1) هو محمد بن عبد الواحد، المعروت بـ:"غُلام ثَعْلَب": إمام في اللغة. له "الياقوتة" -رسالة في غريب القرآن- و "المدخل" في اللغة وغير ذلك. (ت 345 هـ).
(2)
رواه البخاري (6471)، ومسلم (2819)، والترمذي (412)، والنسائي (3/ 219) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.