الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) كتاب الجمعة
(1) باب فضل الغسل للجمعة وتأكيده، ومن اقتصر على الوضوء أجزأه
[712]
- عَن ابنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُم أَن يَأتِيَ الجُمُعَةَ فَليَغتَسِل.
رواه أحمد (2/ 9 و 35 و 330)، والبخاري (894)، ومسلم (844)، والترمذي (492)، والنسائي (3/ 93 و 105)، وابن ماجه (1088).
ــ
(4)
كتاب الجمعة
(1)
باب فضل الغسل للجمعة وتأكيده (1)
قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل، وقوله صلى الله عليه وسلم: غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم: ظاهر في وجوب غسل الجمعة، وبه قال أهل
(1) العنوان مستدرك من التلخيص.
[713]
- وَعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: بَينَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَخطُبُ النَّاسَ
ــ
الظاهر، وحكي عن بعض الصحابة، وعن الحسن، وحكاه الخطابي عن مالك، ومعروف مذهبه وصحيحه: أنه سنة، وهو مذهب عامة أئمة الفتوى، وحملوا تلك الأحاديث على أنه واجب وجوب السنن المؤكدة، ودلّهم على ذلك أمور:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت؛ غفر له، فذكر فيه الوضوء، واقتصر عليه دون الغسل، ورتَّب الصِّحة والثواب عليه. فدلَّ على أن الوضوء كافٍ من غير غُسل، وأن الغسل ليس بواجب.
وثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم لهم حين وَجد منهم الريح الكريهة: لو اغتسلتم ليومكم هذا؟ ! . وهذا عرضٌ وتحضيضٌ، وإرشادٌ للنظافة المستحسنة، ولا يقال مثل ذلك اللفظ في الواجب.
وثالثها: تقرير عمر والصحابة لعثمان رضي الله عنهم على صلاة الجمعة بالوضوء من غير غسل، ولم يأمروه بالخروج، ولم ينكروا عليه، فصار ذلك كالإجماع منهم على أن الغسل ليس بشرط في صحة الجمعة، ولا واجب.
ورابعها: ما يقطع مادة النزاع، ويحسم كل إشكال: حديث الحسن، عن سَمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل (1)، وهذا نصٌ في موضع الخلاف؛ غير أن سماع الحسن من سمرة مختلف فيه، وقد صح عنه أنه سمع منه حديث العقيقة، فيحمل حديثه عنه على السماع إلى أن يدلّ دليلٌ على غير ذلك. والله تعالى أعلم.
وخامسها: أنه عليه الصلاة والسلام قد قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمسُّ من الطيب ما قدر عليه. وظاهر هذا وجوب
(1) رواه أبو داود (354)، والترمذي (497)، والنسائي (3/ 94).
يَومَ الجُمُعَةِ، إِذ دَخَلَ عُثمَانُ بنُ عَفَّانَ، فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعدَ النِّدَاءِ، فَقَالَ عُثمَانُ! يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ! مَا زِدتُ حِينَ
ــ
السواك والطيب، وليس كذلك بالاتفاق، يدلّ على أن قوله: واجب. ليس على ظاهره، بل المراد به ندب المؤكَّد؛ إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب في لفظ الواو (1) والله تعالى أعلم.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل؛ دليل لمالك على أن الغسل إنما يجب عند الرواح متصلا به، كما هو مذهب مالك والأوزاعي، وأحد قولي الليث وغيرهم، وفيه نظر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: على كل محتلم، يعني به: البالغ، وخصّ المحتلم بالذكر؛ لأن الاحتلام أكثر ما يبلغ به الرجال، وهو الأصل. وهذا كما قال في حق النساء: لا تقبل صلاة حائضٍ إلا بخمار (2)، يعني بالحائض: البالغ من النساء، وخصّها به؛ لأن الحيض أغلب ما يبلغ به النساء من علامات البلوغ. وفيه دليل: على أن الجمعة لا تجب على صبي ولا امرأة؛ لأنه بيّن محل وجوبها.
وقول عمر: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء: إنكار منه على عثمان تأخره عن وقت وجوب السعي، ثم عذر عثمان حين اعتذر بقوله: ما زدت على أن توضأت؛ يعني: أنه ذَهَل عن الوقت، ثم تذكره، فإذا به قد ضاق عن الغسل، وكان ذهوله ذلك لعذر مُسوِّغ.
(1) في هامش (هـ) حاشية: جاء تشريك ما ليس بواجب مع الواجب في كتاب الله تعالى.
قال الله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141] فالأكل ليس بواجب، والإتيان واجب، والله تعالى أعلم.
(2)
رواه أحمد (6/ 218 و 259)، وأبو داود (641)، والترمذي (377) من حديث عائشة.
سَمِعتُ النِّدَاءَ أَن تَوَضَّأتُ ثُمَّ أَقبَلتُ. فَقَالَ عُمَرُ: وَالوُضُوءَ أَيضًا! أَلَم تَسمَعُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُم إِلَى الجُمُعَةِ فَليَغتَسِل.
رواه مسلم (845)(4).
[714]
- وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: غُسلُ يَومَ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحتَلِمٍ، وَسِوَاكٌ، وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيهِ.
وَفِي أُخرَى: وَلَو مِن طِيبِ المَرأَةِ.
رواه أحمد (3/ 60)، والبخاري (2665)، ومسلم (846)(7)، وأبو داود (341)، والنسائي (2/ 92)، وابن ماجه (1089).
ــ
وقول عمر رضي الله عنه: والوضوء أيضًا؟ ! : إنكار آخر على ترك السنة المؤكدة التي هي الغسل على جهة التغليظ، حتى لا يتهاون بالسنن، لا أنه كان يعتقد الغسل واجبًا، ويجوز في الوضوء النصب والرفع، فالرفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: الوضوءُ تقتصر عليه، والنصب على أنه مفعول بإضمار فعل تقديره: أتخصّ الوضوءَ دون الغسل؟ ! أو ما في معنى ذلك، والواو عِوَضٌ من همزة الاستفهام؛ كما قال تعالى:(قال فرعون وآمنتم به)(1) في قراءة ابن كثير.
وقوله: ولو من طيب المرأة: يعني بذلك: الطيب المباح للنساء، المكروه للرجال، وهو ما ظهر لونه، فأباحه هنا لعدم غيره، ويدلّ هذا على تأكد التطيب للجمعة.
(1) الآية هي قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: 123].
[715]
- وعَن عَائِشَةَ، قَالَت: كَانَ النَّاسُ يَنتَابُونَ الجُمُعَةَ، مِن مَنَازِلِهِم وَمِنَ العَوَالِي، فَيَأتُونَ فِي العَبَاءِ، وَيُصِيبُهُمُ الغُبَارُ، فتخرُجُ مِنهُمُ الرِّيحُ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنسَانٌ مِنهُم وَهُوَ عِندِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَو أَنَّكُم تَطَهَّرتُم لِيَومِكُم هَذَا.
رواه البخاري (902)، ومسلم (847)، وأبو داود (352)، والنسائي (3/ 93 - 94).
ــ
وقول عائشة رضي الله عنها: كان الناس ينتابون؛ أي: يجيئون. والانتياب: المجيء نوّبًا، والاسم: النوب، وأصله: ما كان من قرب؛ كالفرسخ والفرسخين. والكُفاةُ: جمع كافٍ؛ أي: عبيد وخدم يكفونهم العمل. والعباء: جمع عباءة، وهو كساء غليظ، وقد تقدم: أن أقرب العوالي من المدينة على ثلاثة أميال أو نحوها، وهذا ردّ على الكوفيّ الذي لا يوجبها على من كان خارج المصر، وخالفه في ذلك الجمهور؛ مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ فقالوا: تجب الجمعة على من كان خارج المصر ممن يسمع النداء، غير أن مالكًا حدّه بثلاثة أميال، أخذًا بحديث عائشة هذا، وأيضًا فإن هذا المقدار يُسمع منه النداء من المؤذن الصيّت في الوقت الهادئ غالبًا. واختلف أصحابه: هل تعتبر الثلاثة الأميال من طرف المدينة، أو من المنار؟
ولا خلاف أنها تجب على أهل المصر، وإن عَظُم وزاد على ستة أميال، إلا شيئًا روي عن ربيعة: أن الجمعة إنما تجب على من إذا سمع النداء وخرج ماشيًا أدرك الصلاة، وروي عن جماعة أنها تجب على من آواه الليل إلى أهله (1)، فيجيء (2) على هذا: أنها تجب على من يكون على نصف يومٍ، وهو مذهب
(1) قوله (إلى أهله) من (هـ).
(2)
في (ع) و (هـ): فيجب، وما أثبتناه من (ظ).
[716]
- وَعَنهَا، قَالَت: كَانَ النَّاسُ أَهلَ عَمَلٍ، وَلَم تكُن لَهُم كُفَاةٌ، فَكَانُوا يَكُونُ لَهُم تَفَلٌ، فَقِيلَ لَهُم: لَوِ اغتَسَلتُم يَومَ الجُمُعَةِ.
رواه البخاري (903)، ومسلم (847).
[717]
- وعَن أَبِي هُرَيرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ أَن يَغتَسِلَ فِي كُلِّ سَبعَةِ أَيَّامٍ، يَغسِلُ رَأسَهُ وَجَسَدَهُ.
رواه مسلم (849).
ــ
الحكم والأوزاعي وعطاء وأبي ثور، وذهب الزهري إلى أنها تجب على من هو من المصر على ستة أميال. وروي عنه وعن ابن المنكدر، وربيعة: أربعة أميال.
وقوله: فيكون لهم تَفَل: بالتاء باثنتين من فوق، وفتح الفاء؛ وهي الرائحة الكريهة. وفي رواية الأم: فيصيبهم الغبار والعرق، وهو دليل: على أنهم كانوا يُهجِّرون.
وقوله: حقُّ الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام: لم يُعيّن في الصحيح يوم هذا الغسل، وقد عينّه البزار في زيادة زادها في هذا الحديث. قال: وهو يوم الجمعة (1). وتمسك به من قال من أهل الظاهر: بأن الغسل ليوم الجمعة لا للجمعة، ولا حجة فيه؛ لأن الصحيح ليس فيه: يوم الجمعة. والمفسر ظاهره أنه قول الراوي، والله تعالى أعلم. والصحيح أن الغسل للجمعة لإضافته إليها، ولأن معقوله المبالغة في النظافة؛ كما فهم من حديث عائشة المتقدِّم.
(1) رواه البزار (624) من حديث ثوبان، كما في كشف الأستار (1/ 300).
[718]
- وَعَنهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنِ اغتَسَلَ يَومَ الجُمُعَةِ غُسلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَن رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَن رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبشًا أَقرَنَ، وَمَن رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَن رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلائِكَةُ يَستَمِعُونَ الذِّكرَ.
ــ
وقوله صلى الله عليه وسلم: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة: يعني في الصفة. والأغسال الشرعية كلها على صفة واحدة وإن اختلفت أسبابها. وهكذا رواية الجمهور، ووقع عند ابن ماهان: غسل الجمعة مكان غسل الجنابة. وفي كتاب أبي داود من حديث أوس بن أوس مرفوعًا - مشدد السين -: من غسَّل واغتسل (1)، وذكر نحو حديث مسلم. وقد روي مخفف السين، وروايتنا التشديد. واختُلف في معناه، فقيل: معناه: جامَعَ؛ يقال: غسَل وغَسَّل؛ أي: جامَعَ. قالوا: ليكون أغضَّ لبصره في سعيه إلى الجمعة. وقيل في التشديد: أوجب الغسل على غيره، أو حمله عليه. وقيل: غسّل للجنابة، واغتسل للجمعة، وقيل: غسّل رأسه، واغتسل في بقية جسده. وقيل: غسَّل: بالغ في النظافة والدَّلكِ، واغتسل: صبّ الماء عليه. وأنسبُ ما في هذه الأقوال: قول من قال: حمل غيره على الغسل بالحث والترغيب والتذكير، والله تعالى أعلم.
وقوله: ثم راح. والرواح في أصل اللغة: الرجوع بِعَشِيّ، ومنه قول امرئ القيس:
ورحنا كأنَّا من جُواثَى عَشِيَّةً
…
نُعالي النِّعاجَ بَينَ عِدلٍ وَمِحقَبِ
(1) رواه أبو داود (345)، وانظر: الترغيب والترهيب رقم (1025).
رواه أحمد (2/ 460)، والبخاري (881)، ومسلم (850)، وأبو داود (351)، والترمذي (499)، والنسائي (3/ 97 - 99)، وابن ماجه (1092).
ــ
وأول العشي: زوال الشمس، وهو أوّل وقت أمرنا الله فيه بالسعي إلى الجمعة؛ لأنه تعالى قد قال:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فَاسعَوا} وهذا النداء هو الذي يحصل به الإعلام بدخول الوقت، وبعده يخرج الإمام فيجلس على المنبر، ويؤذن الأذان الثاني، وفائدته: الإعلام بحضور الخطبة، وعند هذا الأذان تطوي الملائكة صحف المبكِّرين، ويستمعون الذكر، كما جاء في حديث أبي هريرة، ولذلك قال العراقيون من أصحابنا: للجمعة أذانان: عند الزوال، وعند جلوس الإمام على المنبر. وهذه الساعات المذكورة في هذا الحديث هي مراتب أوقات الرائحين إلى الجمعة، من أول وقت الزوال إلى أن يجلس الإمام على المنبر ويؤذن الأذان الثاني، وليست عبارة عن الساعات التعديلية التي النهار منها: اثنتي عشرة ساعة، وهذا الذي ذكرناه هو مذهب مالك، وخالفه في ذلك الشافعي. وأكثر العلماء وابن حبيب من أصحابنا قالوا: هذه الساعات المذكورات في هذا الحديث هي المعروفة عند المعدِّلين، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في الأفضل: هل البكور إليها من أوّل ساعات النهار إلى الزوال؟ أو الأفضل البكور في أول الزوال إلى أن يجلس الإمام على المنبر؟ واحتجَّ لمالك بثلاثة أوجه:
أحدها: التمسك بلفظ: الرواح، كما تقدم. ولئن سُلِّم أنه يُقال على المشي مطلقًا؛ فعلى خلاف الأصل، وهو مجاز. ولا يُعارضُ هذا بما في حديث الآخر من قوله: المهجِّر إلى الجمعة (1)، فيقال: إنه من الهاجرة، وذلك قبل
(1) رواه أحمد (2/ 239 و 259)، والنسائي (3/ 98) من حديث أبي هريرة.
[719]
- وَعَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَن تَوَضَّأَ فَأَحسَنَ
ــ
الزوال؛ لأنا لا نُسلِّم أنها تختصّ بما قبل الزوال، بل بشدَّة الحرّ. فهو صالح لما قبل الزوال وبعده. فبين لفظ الرواح أن المراد به ما بعد الزوال. ولا يُقال: إنّ حقيقة الساعة العرفية إنما هي المتعارفة عند المعدِّلين؛ لأنا نمنع ذلك، ونقول: بل الساعة في عرف اللغة: القطعة من الزمان غير محدود بمقدار؛ كما قال تعالى: مَا لَبِثُوا غَيرَ سَاعَةٍ، وتقول العرب: جئتك ساعة كذا. فتتعيَّن بحسب ما تضاف إليه، وليست محدودة. والأصل: التمسك بالأصل.
وثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول، فالأول كالجزور، ثم نزلهم حتى صغر مثل البيضة. وهذا السياق تفسير الحديث الأول، فإنَّ الفاء للترتيب وعدم المهلة، فاقتضى هذا سبقيَّة الأول، وتعقيب الثاني، فالأوّل هو الذي راح في الساعة الأولى، وهو الذي شُبِّه بِمُهدي البدنة، والثاني في الساعة الثانية، وهو المهدي بقرة، وبعده المهدي شاة، وبعده دجاجة، وبعده بيضة. فهذه الخمس المراتب هي من أوّل الساعة السابعة إلى أن يجلس الإمام على المنبر؛ فهي ساعات الدخول للجمعة، لا ساعات النهار. والله أعلم.
وثالثها: عمل أهل المدينة المتصل [وقد جاء في سنن النسائي ما ينص على هذا المعنى](1) بترك البكور للجمعة في أول النهار، وسعيهم إليها قُرب (2) خطبتها وصلاتها، وهو نَقلٌ معلوم عندهم غير منكرٍ، وما كان أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم ممن يترك الأفضل إلى غيره، ويتمالؤون على العمل بأقل الدرجات.
(1) ما بين حاصرتين سقط من (هـ) واستدرك من (ع) و (ظ).
(2)
في (هـ): قبل.
الوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الجُمُعَةَ فَاستَمَعَ وَأَنصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَينَهُ وَبَينَ الجُمُعَةِ، وَزِيَادَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَن مَسَّ الحَصَى فَقَد لَغَا.
ــ
ورابعها: إنّا لو تنزَّلنا على أن الساعات في الحديث هي التعديلية؛ للزم عليه انقضاء فضائل المبكِّرين للجمعة بانقضاء الخامسة ولا يبقى لأهل السادسة فضل، فيلزم طيّ الصحف إذ ذاك، وهو خلاف الحديث. وبيان ذلك: أن البدنة لأهل الساعة الأولى إلى أن تنقضي، والبقرة لأهل الساعة الثانية إلى انقضائها، والشاة لأهل الثالثة إلى انقضائها، والدجاجة لأهل الرابعة، والبيضة لأهل الخامسة، وقد فرغت ساعات البكور، ولم يبق لأهل السادسة ثواب في سعيهم، وهذا مناقض للحديث الذي ذكرناه ولمعناه؛ فإنه أخبر فيه: أن أجورهم لا تزال تكتب إلى أن يخرج الإمام، وهو إنما يخرج في السابعة، وحينئذ تَطوي الملائكة الصحف، وتستمع الذكر، فلا تكتب للداخل إذ ذاك ثواب البكور؛ إذ قد فرغت مراتب ثواب المبكرين. والله تعالى أعلم.
وقوله: غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام: زيادة الثلاثة لتكمل عشرة أيام بالتضعيف؛ حتى تكون الحسنة بعشر أمثالها؛ كما قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا}
وقوله: ومن مسَّ الحصى فقد لغا؛ أي: قد أتى لغوًا من الفعل أو القول. قال الهروي: تكلم بما لا يجوز له، وقيل: لغا عن الصواب؛ أي: مال عنه. وقال النضر بن شُمَيل: خاب، أَلغَيته: خَيَّبته. قال ابن عرفة: اللغو: الشيء المسقط؛ أي: المُلغى. يقال: لغا يلغو، ولَغِيَ يَلغَى.
وفي هذا الحديث ما يدلّ على وجوب الإقبال على استماع الخطبة، والتجرُّد لذلك، والإعراض عن كل ما يُشغل عنها؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث
رواه أحمد (2/ 380)، ومسلم (857)، (27)، وأبو داود (1050)، والترمذي (498)، وابن ماجه (1090).
* * *
الآخر: من قال لصاحبه أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب؛ فقد لغا (1)، وهو حُجَّة على وجوب الإنصات للخطبة على من كان مستمعًا، وهو مذهب الجمهور. وذُكر عن الشعبي والنخعي وبعض السلف أنه ليس بواجب إلا عند تلاوة القرآن، وهذه الأحاديث حجَّة عليهم. واختلف الجمهور فيمن لا يسمع الخطبة: هل يلزمه الإنصات أَو لا؟ فأكثرهم: على أن ذلك لازم. وقال أحمد والشافعي في أحد قوليه: إنما يلزم من يسمع، ونحوه عن النخعي. فلو لغا الإمام، هل يلزم الإنصات أم لا؟ قولان لأهل العلم، ولمالك.
وقوله: والإمام يخطب؛ حجة لعامة العلماء: على أنه إنما يجب الإنصات عند شروع الإمام في الخطبة. وذهب أبو حنيفة: إلى أنَّ الإنصات يجب بخروج الإمام.
والبدنة: ما يُهدَى إلى الكعبة من الإبل؛ لأنها تَبدُن؛ أي: تَسمَن. والبدانة: السّمنُ، وعظم البدن. وتفريقه بين البدنة والبقرة يدل على أن البقر لا يقال عليها بُدنٌ، وهو مذهب عطاء. ومالك يرى أن البقر من البُدن. وفائدة هذا الخلاف فيمن نذر بدنة، أو وجبت عليه فلم يجد البدنة، أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة، فهل تجزئه أم لا؟ فعلى مذهب عطاء: لا، وعلى مذهب مالك: نعم. وظاهر هذا الحديث يدلّ على أن الأفضل في الهدايا الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، وهذا الترتيب لا خلاف فيه في الهدايا، وإنما اختلفوا في ترتيب الأفضل في الضحايا، فذهب الجمهور إلى أن الضحايا مثل الهدايا. وذهب مالك إلى أن
(1) رواه أبو داود (1051).