الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) باب ما يقال في الخطبة ورفع الصوت بها
[739]
- عَن جَابِرِ بنِ عَبدِ الله، قَالَ: كَانَت خُطبَةُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ الجُمُعَةِ؛ يَحمَدُ الله، وَيُثنِي عَلَيهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثرِ ذَلِكَ، وَقَد عَلا صَوتُهُ وَاشتَدَّ غَضَبُهُ - في رواية: واحمَرَّت عَينَاهُ - حَتَّى كَأَنَّهُ مُنذِرُ جَيشٍ، يَقُولُ: صَبَّحَكُم وَمَسَّاكُم، وَيَقُولُ: بُعِثتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَينِ وَيَقرُنُ بَينَ إِصبَعَيهِ
ــ
(6)
ومن باب: ما يقال في الخطبة
كونه صلى الله عليه وسلم تحمرُّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدّ غضبه في حال خطبته؛ كان هذا منه في أحوال، وهذا مُشعر بأن الواعظ حقُّه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ما يطابقه، حتى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه، وأما اشتداد غضبه؛ فيحتمل أن يكون عند نهيه عن أمر خولف فيه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان.
ومُنذر الجيش: هو المخبر بجيش العدو الذي يخوف به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: بُعثت أنا والساعة كهاتين: قيّدناه بالفتح، والضم. فأما الفتح؛ فهو على المفعول معه، والرفع على أنه معطوف على التاء في بُعثت، وفصل بينهما بـ أنا توكيدًا للضمير؛ على ما هو الأحسن عند النحويين، وقد اختار بعضهم النصب بناءً على أن التشبيه وقع بملاصقة الأصبعين واتصالهما، واختار آخرون الرفع بناءً على أن التشبيه وقع بالتفاوت الذي بين رؤوسهما، ويعني أن ما بين زمان النبي صلى الله عليه وسلم وقيام الساعة قريب؛ كقرب السَّبابة من الوسطى، وهذا أوقع. والله أعلم.
السَّبَّابَةِ وَالوُسطَى وَيَقُولُ: أَمَّا بَعدُ؛ فَإِنَّ خَيرَ الحَدِيثِ كِتَابُ الله، وَخَيرُ الهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ،
ــ
وقد جاء من حديث سهل عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: سبقتُها بما سبقت هذه هذه (1)؛ يعني الوسطى والسبابة.
وقوله: أما: كلمة تفصل ما بعدها عما قبلها، وهي حرف متضمن للشرط، ولذلك تدخل الفاء في جوابها، وقدَّرها النحويون بـ مهما. وبعد: ظرف زماني قُطع عن الإضافة مع كونها مرادة، فبُني على الضم، وخُصَّ بالضم؛ لأنه حركة ليست له في حال إعرابه، والعامل فيه ما تضمنه أما من معنى الشرط، فإن معناه: مهما يكن من شيء بعد حمد الله فكذا. والله أعلم. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَآتَينَاهُ الحِكمَةَ وَفَصلَ الخِطَابِ} أنه قوله: أما بعد.
وقوله: خير الهدي هدي محمد: روي: الهدى: بضم الهاء، وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء، وسكون الدال فيهما، وهما من أصل فعل واحد من الهداية، وهي الدّلالة والإرشاد. والهَدي في مستعمل (2) العرف هَديان: هَدي دلالة وإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل والكتب؛ كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهدِي إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ، وفي القرآن:{هُدًى لِلمُتَّقِينَ} والهَدي الثاني: بمعنى التأييد والعصمة من تأثير الذنوب، والتوفيق، وهذا هو الهَدي الذي لا ينسب إلا لله تعالى، وهو المراد بقوله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ، وحملت القدرية هذا الهدي على البيان بناءً على أصلهم الفاسد في القدر، كما قدمناه في أول كتاب الإيمان، ويردُّ
(1) رواه الترمذي (2213) من حديث المستورد بن شداد.
(2)
في (ع): استعمال.
وَشَرُّ الأُمُورِ مُحدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا أَولَى بِكُلِّ مُؤمِنٍ مِن نَفسِهِ، مَن تَرَكَ مَالا فَلأَهلِهِ،
ــ
عليهم قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ} ففرق بين الدلالة والهداية، ولهذا موضعٌ يُعرف فيه، قال أبو عبيد: الهَديُ بفتح الهاء وإسكان الدال: هو الطريق، فهَديُ محمد: طريقه؛ كما يقال: فلان حسن الهَدي؛ أي المذهب في الأمور كلها والسيرة، ومنه: اهتدوا بهدي عمار (1).
وقوله: شر الأمور محدثاتها: يعني: المحدثات التي ليس لها في الشريعة أصل يشهد لها بالصحة والجواز، وهي المسمّاة بالبدع؛ ولذلك حكم عليها بأن كل بدعة ضلالة. وحقيقة البدعة: ما ابتُدئ وافتُتح من غير أصل شرعي، وهي التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ (2).
وقوله: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه؛ أي: أقرب له من نفسه، أو أحق به منها، ثم فسر وجهه بقوله: من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليّ وعليّ. وبيانه: أنه إذا ترك دينا أو ضياعًا ولم يقدر على أن يُخلِّص نفسه منه؛ إذ لم يترك شيئًا يسدُّ به ذلك، ثم يخلّصه النبي صلى الله عليه وسلم بقيامه به عنه، أو سدّ ضيعته؛ كان أولى به من نفسه؛ إذ قد (3) فعل معه ما لم يفعل هو بنفسه. والله تعالى أعلم.
وأما رواية من رواه: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، في غير الأصل فيحتمل أن يحمل على ذلك، ويحتمل أن يكون معناه: أنا أولى بالمؤمنين من
(1) رواه أحمد (5/ 399)، والترمذي (3857) من حديث ابن مسعود.
(2)
رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718)، وأبو داود (4606)، وابن ماجه (14) من حديث عائشة.
(3)
ساقط من (ع).
وَمَن تَرَكَ دَينًا أَو ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَخطُبُ النَّاسَ؛ يَحمَدُ الله وَيُثنِي عَلَيهِ بِمَا هُوَ أَهلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَن يَهدِهِ الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلا هَادِيَ لَهُ، وَخَيرُ الحَدِيثِ كِتَابُ الله. . . وسَاقَ الحَدِيثَ.
رواه مسلم (867)(43 و 45)، والنسائي (3/ 188 - 189).
[740]
- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ في مُخَاطَبَته ضِمَادًا: إِنَّ الحَمدَ لِلَّهِ، نَحمَدُهُ وَنَستَعِينُهُ، مَن يَهدِهِ الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلا هَادِيَ لَهُ. أَشهَدُ أَن لا إِلهَ إِلا الله وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعدُ. . .، وَسَيَأتِي بِكَمَالِهِ.
رواه أحمد (1/ 302)، ومسلم (868)، والنسائي (6/ 89 - 90)، وابن ماجه (1893).
ــ
بعضهم لبعض؛ كما قال تعالى: أَنِ اقتُلُوا أَنفُسَكُم؛ أي ليقتل بعضكم بعضًا، في أشهر أقوال المفسرين.
والضياع: العيال؛ قاله النضر بن شُمَيل، وقال ابن قتيبة: هو مصدر ضاع يضيع، ضياعًا، ومثله: مضى يمضي، مضاءً، وقضى يقضي قضاءً، أراد: من ترك عيالا (1) عالة أو أطفالا، فجاء بالمصدر موضع الاسم؛ كما تقول: ترك فقرًا؛ أي: فقراء. والضياع بالكسر: جمع ضائع؛ مثل: جائع وجياع، وضيعة الرجل أيضًا: ما يكون منه معاشه؛ من صناعة أو غلة؛ قاله الأزهري. وقال شمر: ويدخل فيه: التجارة والحرفة، يقال: ما ضيعتك؟ فتقول: كذا.
(1) من (هـ) و (ظ).
[741]
- وعَن عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ: أَنَّ رَجُلا خَطَبَ عِندَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَد رَشَدَ، وَمَن يَعصِهِمَا فَقَد غَوَى. فَقَالَ
ــ
قلت: وهذا الكلام إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حين رفع ما كان قرّر من امتناعه من الصلاة على من مات وعليه دين لم يترك له وفاء؛ كما قاله أبو هريرة: كان النبى صلى الله عليه وسلم يؤتى بالميت عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه وفاء؟ فإن قيل: إنه ترك وفاء صلى عليه، وإن قالوا: لا؛ قال: صلوا على صاحبكم. قال: فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفي فترك دينًا، فعلي، ومن ترك مالا فلورثته (1).
قال القاضي: وهذا مما يلزم الأئمة من الفرض في مال الله تعالى للذرية وأهل الحاجة، والقيام بهم وقضاء ديون محتاجيهم.
وقوله للخطيب الذي قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى: ظاهره: أنه أنكر عليه جمع اسم الله واسم رسوله صلى الله عليه وسلم في ضمير واحد، ويعارضه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال في خطبته: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضرّ إلا نفسه (2). وفي حديث أنس: ومن يعصهما فقد غوى (3). وهما صحيحان، ويعارضه أيضًا قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} فجمع بين ضمير اسم الله وملائكته، ولهذه المعارضة صرف بعض القُرَّاء هذا الذّم إلى أن ذلك الخطيب وقف على: ومن يعصهما، وهذا تأويل لم تساعده الرواية؛ فإن
(1) رواه أحمد (2/ 399)، والبخاري (2298)، ومسلم (1619)، وأبو داود (2955)، والترمذي (2091).
(2)
رواه أبو داود (2119).
(3)
رواه أبو داود (1098).
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بِئسَ الخَطِيبُ أَنتَ، قُل: وَمَن يَعصِ الله وَرَسُولَهُ.
رواه أحمد (4/ 256)، ومسلم (870)، وأبو داود (1099)، والنسائي (6/ 90).
ــ
الرواية الصحيحة أنه أتى باللفظين في مساق واحد، وأن آخر كلامه إنما هو: فقد غوى. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ عليه وعلّمه صواب ما أخلّ به، فقال: قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى؛ فظهر أن ذمّه له إنما كان على الجمع بين الاسمين في الضمير، وحينئذ يتوجه الإشكال، ونتخلّص عنه من أوجه:
أحدها: أن المتكلم لا يدخل تحت خطاب نفسه إذا وجّهه لغيره، فقوله صلى الله عليه وسلم: بئس الخطيب أنت منصرف لغير النبي صلى الله عليه وسلم لفظًا ومعنى.
وثانيها: أن إنكاره صلى الله عليه وسلم على ذلك الخطيب يحتمل أن يكون كأن هناك من يتوهم التسوية من جمعهما في الضمير الواحد، فمنع ذلك لأجله، وحيث عُدِمَ ذلك جاز الإطلاق.
وثالثها: أن ذلك الجمع تشريف، ولله تعالى أن يُشرف من شاء بما شاء، ويمنع من مثل (1) ذلك للغير؛ كما قد أقسم بكثير من المخلوقات، ومنعنا من القسم بها، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا، وكذلك (2) أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم في إطلاق مثل ذلك، ومنع منه الغير على لسان نبيه.
ورابعها: أن العمل بخبر المنع أولى لأوجه؛ لأنه تقعيد قاعدة، والخبر
(1) ساقط من (ع).
(2)
فى (ع): وكان.
[742]
- وعَن صَفوَانَ بنِ يَعلَى، عَن أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقرَأُ عَلَى المِنبَرِ:{وَنَادَوا يَا مَالِكُ}
رواه أحمد (4/ 223)، والبخاري (3230)، ومسلم (871)، وأبو داود (3992)، والترمذي (508).
[743]
- وعَن عَمرَةَ بِنتِ عَبدِ الرَّحمَنِ، عَن أُختٍ لِعَمرَةَ، قَالَت: أَخَذتُ ق وَالقُرآنِ المَجِيدِ مِن فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ الجُمُعَةِ، وَهُوَ يَقرَأُ بِهَا عَلَى المِنبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.
رواه أحمد (6/ 436)، ومسلم (873)(52)، وأبو داود (1100)، والنسائي (3/ 107).
* * *
ــ
الآخر يحتمل الخصوص، كما قررناه؛ ولأن لهذا الخبر ناقل، والآخر مُبقىً على الأصل؛ فكان الأول أولى؛ ولأنه قول، والثاني فعل؛ فكان أولى. والله أعلم.
وقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر: {وَنَادَوا يَا مَالِكُ} : يحتمل: أن يكون أراد الآية وحدها، أو السورة كلها، ونبّه ببعضها عليها؛ كما يقال: قرأت: الحمد لله. وفي قراءته صلى الله عليه وسلم هذه الآية وسورة (ق) دليل على صحة استحباب مالك قراءة شيء من القرآن في الخطبة، وخص هذه الآية، وسورة (ق)؛ لما تضمنته من المواعظ والزجر والتحذير.
* * *