الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) باب الخطبة، والقيام لها، والجلوس بين الخطبتين، والإشارة باليد
[731]
- عَن جَابِرِ بنِ عَبدِ الله: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخطُبُ قَائِمًا يَومَ
ــ
(5)
ومن باب: الخطبة والقيام لها (1)
قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا: هكذا سنّة الخطبة ليكون أبلغ في الإسماع؛ كالمؤذن [عند الجمهور](2)، إلا أن تدعوه حاجة من ضعف أو غيره. وقد حُكي عن أبي حنيفة: أنه لا يرى القيام لها مشروعًا. حكاه ابن القصار، بل هو عنده مُباح. ثم اختلف (3) في مشروعيته؛ هل هو شرط في صحة الخطبة والجمعة أم لا؟ فذهب الشافعي إلى أنه شرطٌ إلا مع العذر، ومذهبنا: أنه ليس من شروط الصحة للخطبة ولا للجمعة، ومن تركه أساء ولا شيء عليه. وقد روي: أن أول من خطب جالسًا معاوية لما ثقل.
واختُلف في الخطبة: هل هي شرط في صحة الجمعة أم لا؟
فكافة العلماء على أنها شرط، وشذّ الحسنُ، فرأى أن الصلاة تجزئ دونها، وتابعه أهل الظاهر في هذا، وحكاه ابن الماجشون عن مالك. ثم اختلف هؤلاء: هل هي فرض، أو سنة؟ واضطربت الروايات عن أصحابنا في ذلك، ثم
(1) ورد قبل هذا الباب بابٌ عنوانه: "الإنصات للخطبة وفضله"، ومرَّ شرحُه في الباب الأول رقم الحديث (1019).
(2)
ساقط من (ع) واستدرك من (ظ) و (هـ).
(3)
في (ع): اختلفوا.
الجُمُعَةِ، فَجَاءَت عِيرٌ مِنَ الشَّامِ، فَانفَتَلَ النَّاسُ إِلَيهَا، حَتَّى لَم يَبقَ إِلا اثنَا عَشَرَ رَجُلا - وفي رواية: فِيهِم أَبُو بَكر وَعُمَر - فَأُنزِلَت هَذِهِ الآيَةُ:
ــ
اختلفوا في الخطبة المشروعة: فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه لا يجزئ في الخطبة إلا ما وقع عليه اسم الخطبة عند العرب. وأبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا إلى أنه يُجزئ من ذلك تحميدةٌ، أو تهليلة، أو تسبيحة، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالك.
والعير: الإبل التي تحمل الأطعمة والتجارة، وهي المسماة في الرواية الأخرى: سويقة، وهي تصغير سوق.
وقوله: فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا: فيه ردّ على من يقول: إن الجمعة لا تُقام إلا على أربعين فصاعدًا، وحُكي ذلك عن الشافعي، وقد تمسّك بهذا الحديث طائفة من أهل العلم على أن أقل ما تنعقد به الجمعة اثنا عشر، ولا حجة فيه على ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما عَقَدَهَا، وشرع فيها بأكثر من هذا (1) العدد، ثم عرض لهم أن تفرقوا، ولم يبق منهم غير ذلك العدد. وقد رُوي في بعض روايات هذا الحديث: أنه بقي معه أربعون رجلا، والأول أصح وأشهر.
وعلى الجملة فقد اختلف العلماء في العدد المشروط في وجوب الجمعة، وفي العدد الذي تصح ببقائهم إذا تفرقوا عن الإمام بعد شروعه فيها على أقوال كثيرة، فلنرسم فيه مسألتين:
المسألة الأولى: اختلف هل يُشترط في وجوب الجمعة عدد؟ فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى اشتراطه، وذهب داود إلى أنه لا يُشترط ذلك في وجوبها، وتلزم المنفرد، وهي ظهرُ ذلك اليوم عنده لكل أحد. قال القاضي عياض: وهو خلافُ الإجماع. واختلف المشترطون: هل هو مختصٌ
(1) من (هـ).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بعدد محصور أم لا؟ فعدم الحصر هو مذهب مالك؛ فإنه لم يشترط في ذلك حدًّا محدودًا، وإنما قال: يكونون بحيث يمكنهم الثَّواء في بلدهم، وتتقرَّى (1) بهم قرية. وفسّره بعض أصحابنا بنصب الأسواق فيها؛ حكاه عياض. والمشترطون للعدد اختلفوا: فمن قائل: مئتان، ومن قائل: خمسون؛ قاله عمر بن عبد العزيز، ومن قائل: أربعون؛ قاله الشافعي، ومن قائل: ثلاثون بيتًا؛ قاله مطرف، وعبد الملك، عن مالك، ومن قائل: اثنا عشر، ومن قائل: أربعة؛ قاله أبو حنيفة، لكن إذا كانوا في مصر. وقال غيره: ثلاثة، وقيل: واحد مع الإمام. وهذه أقوال متكافئة، وليس على شيء منها دليل، فالأصل ما صار إليه مالك من عدم التحديد، والتمسك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل المتصل في ذلك: فإنهم كانوا يُجمِّعون في الأمصار الكِبار، والقرى الصغار؛ كجواثا وغيرها.
وأما المسألة الثانية: فقد اختلفوا فيما إذا كمل ما تنعقد به الجمعة، ثم تفرقوا عن الإمام، فقيل: إنها تجزئ وإن بقي وحده؛ قاله أبو ثور، وحُكي عن الشافعي. وقيل: إذا بقي معه اثنان، وهو قول الثوري، والشافعي، وقيل: إذا بقي معه اثنا عشر رجلا؛ تمسُّكًا بهذا الحديث، وحكاه أبو يعلى العبدي عن أصحاب مالك، وبه قال إسحاق، ثم اختلفوا في الحال التي يتفرقون عنها؛ فقال أبو حنيفة: إن عقد بهم ركعة أو سجدة ثم تفرقوا عنه أجزأه أن يُتمها جمعة، وإن كان قبل ذلك استقبل ظهرًا. وقال مالك والمزني: إن صلّى بهم ركعة بسجدتيها أتمها جمعة، وإلا لم تجزه، وقال زفر: متى تفرقوا قبل الجلوس للتشهد لم تصح جمعة، وإن جلس وتفرقوا عنه قبل السلام صحَّت، وقال ابن القاسم وسحنون: إن تفرقوا عنه قبل سلامه لم تجزئ الجمعة. وللشافعي قول ثالث: إنها لا تجزئه حتى يبقى معه
(1)"تتقرَّى": تقوم وتستغني.
{وَإِذَا رَأَوا تِجَارَةً أَو لَهوًا انفَضُّوا إِلَيهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}
رواه مسلم (863)(38)، وأبو داود (1093 - 1095)، والنسائي (110/ 3).
[732]
- وعَن كَعبِ بنِ عُجرَةَ، أَنهُ دَخَلَ المَسجِدَ وَعَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أُمِّ الحَكَمِ يَخطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ: انظُرُوا إِلَى هَذَا الخَبِيثِ يَخطُبُ قَاعِدًا، وَقَالَ الله تعالى:{وَإِذَا رَأَوا تِجَارَةً أَو لَهوًا انفَضُّوا إِلَيهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}
رواه مسلم (864)، والنسائي (2/ 102).
ــ
أربعون رجلا إلى تمام الصلاة. والأصحّ من هذه الأقوال ما يعضده هذا الحديث، وهو قول إسحاق وأصحابنا، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَإِذَا رَأَوا تِجَارَةً أَو لَهوًا: التجارة هنا: العير التي تحمل التجارة، واللهو: الطبل؛ الذي كانوا يضربونه عند قدومهم، وانفضّوا؛ أي: تفرقوا.
وقوله: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} ؛ أي: تخطب. [فهذا ذمٌّ لمن ترك الخطبة بعد الشروع فيها، ونهي للمسلمين أن يتفرقوا عن إمامهم](1). [وقد استدل به على اشتراط الخطبة في الجمعة، وفيه بُعد](2)، وأحسن مُتَمَسَّك فيه قوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي (3).
وقول كعب بن عجرة: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدًا: يدل على خلاف قول أبي حنيفة؛ حيث رأى أن الخطيب إن شاء قام، وإن شاء قعد في
(1) من (ع): فقط.
(2)
ساقط من (ع).
(3)
رواه أحمد (5/ 53)، والبخاري (7246) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
[733]
- وعَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ يَومَ الجُمُعَةِ قَائِمًا، ثُمَّ يَجلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ، قَالَ: كَمَا تَفعَلُونَ اليَومَ.
رواه البخاري (920)، ومسلم (861)، وأبو داود (1092)، والترمذي (506)، والنسائي (3/ 109)، وابن ماجه (1103).
[734]
- وعَن جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُطبَتَانِ، يَجلِسُ بَينَهُمَا يَقرَأُ القُرآنَ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ.
رواه أحمد (5/ 101)، ومسلم (862)(34)، وأبو داود (1101)، والترمذي (507)، والنسائي (3/ 110)، وابن ماجه (1105).
[735]
- وَعَنهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخطُبُ قَائِمًا، فَمَن نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخطُبُ جَالِسًا فَقَد كَذَبَ، فَقَد وَالله صَلَّيتُ مَعَهُ أَكثَرَ مِن أَلفَي صَلاةٍ.
رواه مسلم (862)(35).
ــ
خطبته.
ويدل حديثا ابن عمر وجابر بن سمرة بعده على مشروعية الجلوس في وسطها، وقد اختلف في ذلك. قال القاضي أبو الفضل: اختلف أئمة الفتوى في حكم الجلوس بين الخطبتين؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وجمهور العلماء إلى أنه سنة، وإن لم يجلس فقد أساء، ولا شيء عليه. وقال الشافعي: هي فرض، ومَن لم يجلسها فكأنه لم يخطب، ولا جمعة له. وقد حُكي عن مالك نحوه، ورأى مالك والشافعي وأبو ثور: الجلوس على المنبر قبل القيام إلى الخطبة، ومنعه أبو حنيفة، وقد روي عن مالك، وهو غير معروف من مذهبه.
وقول جابر: فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة: ظاهر هذا أنه أراد
[736]
- وَعَنه قَالَ: كُنتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَت صَلاتُهُ قَصدًا، وَخُطبَتُهُ قَصدًا.
رواه مسلم (866)(41)، وابن ماجه (1106).
[737]
- وَعَن أَبي وَائِلٍ، قَالَ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ، فَأَوجَزَ وَأَبلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلنَا: يَا أَبَا اليَقظَانِ. لَقَد أَبلَغتَ وَأَوجَزتَ، فَلَو كُنتَ تَنَفَّستَ؟ ! فَقَالَ: إِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِن فِقهِهِ،
ــ
ألفي صلاة جمعة، وهو محال؛ لأن هذا القدر من الجُمع؛ إنما يكون في نيف وأربعين سنة، ولم يصلّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا المقدار من الجمع، فيتعيّن أن يراد به الصلوات المفروضات، أو قصد به الإغياء والتكثير. والله أعلم.
وقوله: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدًا وخطبته قصدًا؛ أي: متوسطة بين الطول والقصر، ومنه: القصد من الرجال، والقصد في المعيشة، والإكثار في الخطبة مكروه؛ للتشدُّق والإملال للتطويل؛ كما مضى في حديث معاذ.
وقوله: خطبنا عمار فأبلغ وأوجز؛ أي: أبلغ في المعنى، وأوجز في اللفظ، وهذه المسمّاة بالبلاغة والفصاحة.
وقوله: فلو كنت تنفست؛ أي: أطلت الكلام شيئًا؛ يقال: نفَّس الله في عمرك (1)؛ أي: أطاله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: مَئِنَّة من فقهه: الرواية في هذا اللفظ: مَئِنَّة بالهمز، والقصر، وتشديد النون، ووقع لبعضهم: مائنّة بالمدّ، وهو غلط، وكذلك كل تقييد خالف
(1) في (هـ): عمره.
فَأَطِيلُوا الصَّلاةَ وَأقصِرُوا الخُطبَةَ، وَإِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحرًا.
رواه أحمد (4/ 263)، ومسلم (869)، وأبو داود (1106).
ــ
الأول.
قال الأصمعي: سألني شعبة عن هذا الحرف، فقلت: هو كقولك: علامة، ومخلقةٌ، ومَجدرةٌ [ومحراة](1).
قال أبو عبيد: يعني: إن هذا مما يُستدل به على فقه الرجل.
قال أبو منصور: جعل أبو عبيد الهمزة فيه أصلية.
قال أبو الحسن بن سراج: الميم في: مئِنَّة أصلية، ووزنها فَعِلة، من مأنت إذا شعرت، وقاله أبوه أبو مروان.
قال الأزهري: الميم في مَئِنة ميم مفعلة، وليست بأصلية. ومعنى قول المرَّار (2):
فَتَهَامَسوا سِرًّا وقالوا عَرَّسوا
…
من غَير تَمئِنَةٍ لغيرِ مُعَرَّسِ
أي: لم يتأكدوا من وقت التعريس. ويقال: أتاني فلان ما مأَنتُ مَأنَه، ولا شأنت شأنه؛ أي: لم أفكر فيه، ولم أتهيأ له.
وقوله: فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة: غير مخالف لقوله: كانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا؛ لأن كل واحد قصد في بابه، لكن الصلاة ينبغي أن تكون أطول من الخطبة، مع القصد في كل واحد منهما.
وقوله: وإن من البيان سحرا: البيان هنا: الإيضاح البليغ مع اللفظ المستعذب، وفي هذا الحديث تأويلان:
(1) من اللسان.
(2)
هو المرّار الفقعسي.
[738]
- وعَن عُمَارَةَ بنِ رُؤَيبَةَ؛ ورَأَى بِشرَ بنَ مَروَانَ عَلَى المِنبَرِ رَافِعًا يدَيهِ، فَقَالَ: قَبَّحَ الله هَاتَينِ اليَدَينِ، لَقَد رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَزِيدُ عَلَى أَن يَقُولَ بيديه هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصبَعِهِ المُسَبِّحَةِ.
رواه مسلم (874)، وأبو داود (1104)، والترمذي (515)، والنسائي (3/ 108).
* * *
ــ
أحدهما: أنه قصد به الذم؛ لأن الإبلاغ في البيان يفعل في القلوب من الإمالة، والتحريك، والتطريب، والتحزين ما يفعل السحر. واستدلّ متأوِّل هذا بإدخال مالك الحديث في موطئه في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله، وأنه مذهبه في تأويل الحديث.
وثانيهما: أنه على جهة المدح، فإن الله تعالى قد امتن على عباده بالبيان، حيث قال:{خَلَقَ الإِنسَانَ} ، {عَلَّمَهُ البَيَانَ} وشبّهه بالسحر لميل القلوب إليه. وأصل السحر: الصرف، والبيان يصرف القلوب، ويميلها إلى ما يدعو إليه.
قلت: وهذا التأويل أولى؛ لهذه الآية وما في معناها.
وقوله: وأشار بإصبعه المسَبِّحة: كان ذلك - والله أعلم - من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند التشهد في الخطبة؛ كما كان يفعل في الصلاة.
* * *